معادلات متوازنة لسيناريو حل سوداني

TT

يبدو ان المشروع المسمى سيناريو الحل السلمي لمشكلة جنوب السودان بنقاطه السبع والذي نشرته «الشرق الأوسط» في عدد الاربعاء الماضي يستحق قراءة متأنية وتحليلا متوازنا في ضوء ما حمل من مؤشرات محددة، واثار من تساؤلات تبحث عن اجابات.

وقبل ان نستعرض المؤشرات او نحاول الاجابة على التساؤلات المتعلقة ببنود المشروع، نطرح اسئلة حول القوى التي تقف خلفه ومدى قدرتها على التأثير على الاطراف المختلفة وانعكاسات ذلك التأثير على المنطقة ككل؟.. وهل هناك متغيرات وظروف تجعل حظوظ هذا المشروع افضل من مسلسل المبادرات العديدة السابقة التي قبرت او ما زالت تراوح مكانها؟

لقد المحت «الشرق الأوسط» في مجمل استعراضها للمشروع انه يحظى بدعم اميركي واوروبي. ولا شك ان مثل هذا الدعم سيكون له تأثير قوي للدفع باتجاه تحقيقه إن بالنسبة للاطراف السودانية او دول الجوار المؤثرة والمتأثرة بالحرب الاهلية في جنوب السودان. وهذا ما يجعل السيناريو لا يشبه السيناريوهات او المبادرات السابقة ويرجح احتمالات تنزيله على ارض الواقع بشتى الطرق، علما بأن المشروع نفسه في ما يبدو تمت صياغته بعناية وتوازن لا شيء يميل الى جانب على حساب الآخر بقدر ما راعى كل الظروف والملابسات مما سيتضح من خلال استعراضنا لبنوده.

مما لا شك فيه ان دول الجوار المعنية بمباشرة التوفيق بين الحكومة السودانية من جهة والحركة الشعبية بقيادة قرنق من جهة اخرى، كلها تتمتع بعلاقات حسنة مع الولايات المتحدة ومتميزة مع بعض الدول الاوروبية، وبعضها علاقاته جيدة مع حكومة السودان، والبعض الآخر علاقاته جيدة مع حركة قرنق، وهذا التواصل باشكاله المتعددة وما له من ثقل وتأثير سيوفر ارضية مناسبة للتحرك عن قناعة ومقدرة لانجاح سيناريو الحل السلمي. فوقوف هذه الدول باجماع خلف هذه البنود يجعل من العسير على الحركة رفضها، وكذلك من الصعب على الحكومة عدم التجاوب معها، فرفض الحكومة قد يقود الى فتح المجال امام التدخل الدولي والى المزيد من تقديم الدعم لحركة قرنق. كما ان رفض الحركة يعرضها حتما الى حرمانها من الامتيازات التي تقدمها لها دول الجوار الصديقة بكل ما سيترتب على ذلك من شلل لتحركات وامدادات جيش الحركة فضلا عن التعاطف الذي تجده من اميركا واوروبا.

اذن من ناحية التأثير فكل امكاناته متوافرة لجهة الدفع باتجاه انجاح السيناريو، اما بالنسبة للمتغيرات التي من شأنها جعل حظوظ النجاح راجحة فإنها كثيرة ابرزها: ان هذه الحرب تعد هي الاطول في تاريخ العالم ويجب وضع حد لها للاعتبارات الانسانية من جهة، ولموقع السودان الذي ازدادت اهميته في منطقة القرن الافريقي للاعتبارات المفهومة، وفوق ذلك استخراج البترول وما صاحبه من تسابق دولي لاكتشاف حقول جديدة فتحت شهية الجميع للتنقيب فيه. ويبقى السلام والاستقرار هما الشرطين الواجب توافرهما لبلوغ كل هذه الغايات ليس لتحقيق المصالح المشتركة للقوى العالمية او الاقليمية فحسب وانما للسودانيين بالدرجة الاولى، فلطالما تطلعوا الى ثروات باطن الارض والتمتع بعائداتها. اذن فالحكومة صارت احرص على السلام والاستقرار، والجنوبيون ايضا يرغبون في حصتهم من البترول.. وهكذا اصبح البترول عامل صحوة وشد وجذب، فإما ان يتحول الى نعمة ينعم بها الجميع او نقمة تتفجر حرائق تحرق الجميع، او يظل في باطن الارض الامر الذي لم يعد مقبولا في عصر العولمة والعالم الذي اصبح قرية والاحتياج اليه يتزايد بوصفه سلعة استراتيجية كونية في ضوء كل هذه الاعتبارات بما فيها من قهر الظروف والرهق الذي اصاب الجميع، والوصاية العالمية التي تحط رحالها حيثما كانت مصلحتها اصبح لازما على اهل السودان ان تضع الحرب اوزارها وان يدرسوا ويقبلوا بهذا السيناريو المتوازن والذي نستعرضه بندا بندا مع بعض الحواشي والتفسيرات.

اولا: تعترف الحركة الشعبية بصلاحيات الحكومة كحكومة لكل السودان، وتعترف الحكومة باحتلال وسيطرة الجيش الشعبي على كل المواقع التي يديرها.. ان هذا الاعتراف المتبادل يعني ان تحكم حركة قرنق الجنوب خلال الفترة الانتقالية بينما تسلم الحركة بسلطة الحكومة المركزية. وهذا بالطبع يتطلب ترتيبات تقود الى المشاركة في الحكومة المركزية من جهة بينما يكون وضع الجنوبيين الموالين للحكومة يحتاج الى معالجة ايضا. ومن المستبعد ان تكون هناك مشاكل تستعصي على الحل في هذا الجانب طالما المبدأ الاساسي لن يكون موضع خلاف وهو ان تضع الحرب اوزارها وان يقتصر حكم الجنوب على ابنائه.

ثانيا: يتم وقف اطلاق النار من الجانبين. هذا امر طبيعي ومن اولويات لزوم الاتفاق.

ثالثا: تشرف على مراقبة تنفيذ وقف اطلاق النار دول الايقاد.. ومنظمة الوحدة الافريقية والحكومة والحركة. وهذه مسألة اجرائية مطلوبة ومرغوبة من الجميع.

رابعا: يحكم السودان لفترة انتقالية تتراوح بين سنتين او ثلاث في اطار المبادئ التي اعلنتها دول الايقاد، وان يستثنى الجنوب من الاحكام الشرعية. بالطبع هذه الفترة الانتقالية تحتاج الى برنامج خاص لتسيير دفة الحكم بما يحقق العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق وقسمة الثروة الى آخره، وتلك كلها في جوهرها لا خلاف عليها. وتبقى التفاصيل والآليات هي محور الاخذ والرد، ويلزم الا يكون الامر محصورا بين الحكومة والحركة وانما يشمل كل القوى السياسية الاخرى لان الفترة الانتقالية هي نقلة حقيقية لكل السودان وليست للجنوب فحسب، علما بان البند السابع في السيناريو يشير بوضوح الى اجراء انتخابات عامة لكل السودان. وبالطبع لا يمكن اجراء مثل تلك الانتخابات بمعزل عن القوى السياسية كلها.

خامسا: تشكيل لجان لادارة البلاد بين الشمال والجنوب في كل المجالات. وهذا بالطبع امر حتمي ولا بد منه.

سادسا: تحديد الاجراءات الخاصة بالاستفتاء في نهاية الفترة الانتقالية على ان يكون الاستفتاء محصورا بين الحكم الفدرالي او الكونفدرالي... «لا شك ان هذا البند يشكل صمام الامان لوحدة السودان اذا التزم الجميع بما يفضي الى قيام «سودان جديد» فتكون الفدرالية هي الفيصل. وحتى لا يغيب عن البال يلزم ان نذكر انها كانت مطلبا جنوبيا رؤي تضمينه وثيقة دستور الاستقلال بعبارة «النظر بعين الاعتبار في مطلب الفدرالية لجنوب السودان»، وللاسف لم يتم النظر او الوفاء بهذا الوعد بل لسنوات عديدة كان ينظر اليه في الشمال نظرة رفض واستنكار باعتباره خطوة على طريق الانفصال. وحين منح الجنوب حكما ذاتيا في عهد نميري شهد السودان توقفا لنزيف الحرب لعقد من الزمان الى ان نكث العهد فاشتعلت الحرب من جديد. باختصار، الحكم الفدرالي ضرورة، ولو تحقق وقتها لكان حال السودان الآن افضل بكثير. اما الكونفدرالية فقد وردت الاشارة اليها كخيار ثان، اولا لتوفير شروط نجاح الفدرالية حتى يجد الجميع في الالتزام بتعهداتهم المقنعة بها، وثانيا الكونفدرالية هي البديل للانفصال، اذا ما اصر المسلمون على تطبيق الحكم الديني في الشمال. وبالطبع لاهل الجنوب الحق في ذلك.

وفي هذا البند قد اسقط من اعلان مبادئ «الايقاد» حق تقرير المصير المفضي الى استقلال الجنوب اذا لم يتم الاتفاق على قيام حكومة علمانية. واستبدل حق تقرير المصير بالكونفدرالية كحد اقصى، وسكت عن قيام حكومة علمانية على امل ان تفضي الانتخابات العامة الى قيام حكم ديمقراطي يساوي بين كل الاديان، وهذا سيتحقق طالما سيكون الاحتكام الى الشعب، فغالبيته لا تدين بالولاء لدعاة الاسلام السياسي وبالتالي سيتم التحول بشكل متحضر من دون قهر لاحد، او تراجع عن مبدأ وانما تسليما بالارادة الشعبية.

هكذا يبدو هذا البند صيغ برؤية جديدة خالية من الحدة والتحدي ومرضية لكل الاطراف الرئيسية في اطار يضمن اعطاء فرصة لوحدة السودان، واحسب ان السودانيين قد تعلموا الكثير من اخطائهم في هذه الحرب التي كدرت عليهم حياتهم وجعلتهم من افقر الدول عوضا عن ان يكونوا من اكثرها ثراء. وفي الوقت الذي نعترف فيه باخطائنا كشماليين على وجه الخصوص في ما يخص اهلنا في الجنوب بما في ذلك الدكتور الترابي الذي كان الداعية الاول للدستور الاسلامي بكل ما ترتب على ذلك من اشكالات مع الجنوب وصلت حد تحويل الحرب إلى حرب جهادية، فإننا نأمل من اخوتنا العرب، أن يتفهموا ويباركوا ما نحن مقبلون عليه لا أن يتمسكوا بما أقنعناهم به من قبل وتخلينا عنه الآن، فنحن نقدر المشاعر الحريصة على وحدة السودان وعلى دوره العروبي، لكن تقدير المشاعر والدور الافريقي مطلوبان ايضا لتعزيز خصوصية وضع السودان ولكي يكون الجسد الواصل بين العروبة والافرقة.

ومع ذلك لا بد من التنبيه إلى أن كل الأخطاء الجوهرية التي ارتكبت بحق الجنوب لم تكن مقصودة لذاتها وإنما حدثت نتيجة لقصور في الادراك أو لغفلة وبحسن نية، ونذكر منها هنا مثلا او اثنين لتبيان هذه الحقيقة.. عندما خرج الانجليز تركوا لدى السودان افضل خدمة مدنية مثل بريطانيا وحاولنا أن نطبق ذات المقياس في سودنة الوظائف البريطانية استنادا إلى الشهادات العلمية والخبرة والهرم الوظيفي، فكانت جل إن لم نقل كل الوظائف من نصيب الشماليين مما أثار حفيظة الجنوبيين وساهم في دفعهم للتمرد. هذا الخطأ الفادح لم يكن مقصوداً وكان ينبغي التنبه إلى وضع ترتيبات استثنائية تمكن أبناء الجنوب من القفز فوق حواجز الشهادات والخبرة والهرم الوظيفي حتى يحسوا بنعمة الاستقلال وبأن الشماليين ليسوا ورثة الاستعمار أو الاستعمار الجديد! والمثل الثاني هو أن الشماليين لم يأخذوا بعين الاعتبار مسألة الفدرالية كما التزموا في وثيقة الاستقلال وذلك نتيجة لسوء الفهم الذي ركبهم بسبب التمرد الذي وقع والهواجس التي تملكتهم من أن هناك قوى خفية تسعى لأسباب دينية وعرقية لفصل الجنوب! تلك كانت البدايات وما استصحبها من حروب وكوارث يدفع السودان ثمنها حتى الآن.

ونختم بالعودة إلى البند الأخير في السيناريو ونصه يقول: تنظيم انتخابات عامة في كل السودان.. ومع أن النص لم يشر إلى موعد إجراء الانتخابات العامة في كل السودان، وهل تجرى الآن؟ أم بعد الفترة الانتقالية؟ فإن مبدأ أن تجرى في كل السودان مؤشر لتأكيد الوحدة، والنتائج في كلتا الحالتين لن تكون خصماً منها لأن الخيار الديمقراطي الحر لن يكون فيه أي مجال للتعصب العرقي أو الديني، فالسودانيون بطبعهم متسامحون وما كان للتطرف أن ينال منهم إلا بقوة اغتصاب السلطة ومع ذلك هزم التطرف امام صخرة الواقع كما نلمس ونرى إلى أين صار! وفي كل الأحوال إذا جرت الانتخابات العامة بعيد توقيع الاتفاق مباشرة فإن إرادة الشعب ستكون هي الغالبة، لكن ما يمكن تصوره هو أن تجرى الانتخابات بعد نهاية الفترة الانتقالية وساعتها سيكون البرنامج المتفق عليه قد أنجز على نحو ما وكل المسائل المتفق عليها نظريا قد طبقت على أرض الواقع وجربت بما يجعل الخيار ميسورا بين الفيدرالية والكونفدرالية وستكون نتيجة الانتخابات هي الفيصل لهذا الخيار أو ذاك. لكن في هذه الحالة يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً وأهمية هو أين دور ومكان القوى السياسية الشمالية في هذا السيناريو؟ على الأرجح أن هذا السيناريو لم يتحدث عن القوى الشمالية إلا في إطار الانتخابات العامة، لكنه لم يشر إليها أو إلى أي دور لها في الفترة الانتقالية، ربما ترك هذا الأمر لمرحلة لاحقة، أو ربما ترك هذا الدور إلى الجانب العربي في ما أطلق عليه مسمى المبادرة المصرية ـ الليبية المشتركة، أو لمبادرات سودانية ـ سودانية؟ كل هذه الأسئلة لا تتوفر أي إجابة عليها. لكن الواضح أن المبادرة المصرية ـ الليبية في مجملها باهتة ولم تأخذ منحى جديا بأي حال من الأحوال، ولم يعد أهل السودان يستبشرون بها، خاصة بعد أن تردد أن هناك خلافا حولها بين المصريين والليبيين، فضلا عن كونها منذ مولدها قبل أكثر من عام لم تحقق ولا خطوة واحدة إلى الأمام وبدت وكأنها مبادرة بين الحكومتين المصرية والليبية من جهة، والحكومة السودانية من جهة أخرى! إذ بين الفينة والأخرى يشار إلى أن هناك اجتماعات قد عقدت بين وزراء الخارجية الثلاثة لبحث أمر المبادرة من دون أن تدعى المعارضة لهذه الاجتماعات! وأخيراً قيل إن هناك ورقة ستقدم من الدولتين للمعارضة والحكومة في أول الشهر الماضي، لكنها لم تقدم حتى الآن. وقيل إن لقاء مشتركا بين المعارضة والحكومة سيعقد برعاية الدولتين هذا الشهر في ضوء تلك الورقة التي لم تقدم أصلا ولا أحسب أن الاجتماع سيعقد لأن الورقة في الأساس لم تقدم وبالتالي لم ترسل إجابات من الأطراف المعنية حولها! والكثيرون في أوساط المعارضة أصابهم اليأس من رغبة البلدين في تحقيق المصالحة الوطنية، بل ان البعض يتشكك في أن الدولتين ضالعتان مع النظام لتثبيت اقدامه على حساب المعارضة الشمالية!علما بأن المبادرة الافريقية بعثت فيها الحياة من جديد بشفافية وبسند قوي من القوى العالمية الفاعلة والافريقية التي كانت ولم تزل منذ البداية تبدي حرصاً وتحركاً بينما راهنت المعارضة الشمالية على هذا الجانب العربي الذي لم يستطع لا دمج المبادرتين العربية والافريقية ولا التنسيق بينهما ولا القيام بأي دور فاعل في المبادرة التي اطلقها هو، بينما أصبحت المعارضة مشلولة مع أن كل شيء يتحرك على الجانب الآخر من ضفة النهر!