الديمقراطية الهدف.. وديمقراطية النموذج الغربي

TT

في ندوة مخصصة لمناقشة الديمقراطية في دول الجنوب، الصيف الماضي، دار نقاش طويل حول ايجابيات وسلبيات نقل مؤسسات النموذج الغربي للديمقراطية إلى الدول النامية. وسأل سفير عربي مشارك في الندوة ما اذا كان هناك معنى آخر للديمقراطية غير معناها المرتبط بالنموذج الغربي. وكان واضحاً من الاجابات التي اعطيت لسؤال السفير ان غالبية المشاركين في النقاش لا يعرفون، أو لا يريدون ان يعترفوا، الا بوجود معنى واحد للديمقراطية هو معناها المؤسسي الغربي. هذه هي النظرة الشائعة للديمقراطية، وعندما نفكر في الديمقراطية فان اول ما يتبادر إلى اذهاننا هو صورة الحياة السياسية في الغرب. ولكن سؤال السفير العربي يبقى قائماً، فهل هناك معنى آخر للديمقراطية غير معناها المؤسسي الغربي؟

ان الديمقراطية في تعريف مبسط لها تعني في مفهومها الرمزي حكومة الشعب وفي مفهومها الفعلي تعني الحكومة التي تمثل الشعب أو اغلبية الشعب. ويتضح من هذا التعريف البسيط للديمقراطية ان المصطلح في اصله لا يرتبط بالضرورة بالمؤسسات الغربية الحديثة وان أي حكومة وفق هذا التعريف قديمة أم حديثة، معقدة أم بسيطة سواء وجدت في قبائل الصحراء العربية أو دول المدينة في اليونان أو امارات الصين القديمة أو حضارة الازتك في المكسيك أو في دولة أوروبية حديثة، هذه الحكومة يمكن ان تعتبر من حيث المبدأ حكومة ديمقراطية اذا كانت تمثل الشعب أو غالبية الشعب وتحظى بقبول الافراد والجماعات وتستجيب لمطالبهم وتعمل على حل مشاكلهم. واذا ابتعدنا قليلاً عن اطار التعريف المبسط للديمقراطية نجد ان النظرية الديمقراطية الكلاسيكية نفسها لا تبدأ عادة بتعريف الديمقراطية من منطلق النموذج الغربي وانما تبدأ بتحديد قيم وغايات الديمقراطية، ولكن غالبية مفكري الغرب الحديثين اصبحوا يركزون على المؤسسات الديمقراطية الغربية.

ولقد نتج عن ذلك ان الديمقراطية كما تصورها لنا ادبياتها الحديثة والمعاصرة اصبحت تعني شيئاً واحداً فقط وهو النموذج الغربي للديمقراطية. ولكن هذا التصور كما ذكرت لا يعكس الحقيقة الكاملة للنظرية الديمقراطية الكلاسيكية، فمنذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى بداية الربع الأخير من القرن العشرين تضمنت الادبيات الديمقراطية في الغرب نظريات ومفاهيم وتعريفات كانت في رؤيتها للديمقراطية اوسع بكثير من الحيز الذي يقيدها بالنموذج الغربي أو يحصرها ضمن مؤسساته. ومن أهم ما يمكن الاشارة إليه في هذا الخصوص هو مفهوم الديمقراطية الذي يركز على قيمها واهدافها الفلسفية ولا يقيدها بالتالي بالنموذج الغربي. يميز رونالد بيناك في كتابه الكلاسيكي النظرية الديمقراطية السياسية بين تعريفين اساسيين للديمقراطية تطورا بوضوح منذ نهاية القرن التاسع عشر: الأول هو تعريف نموذجي قيمي Idealistec definition يركز على القيم الديمقراطية الاساسية التي تتمثل في الحرية Liberty والمساواة Equality والأخوة الانسانية Fratetnity، والعدالة Justice. والنظريات الديمقراطية التي تبنت هذا التعريف عنيت بمصدر وشرعية السلطة وبهدف الديمقراطية أو الاهداف التي ينبغي ان تسعى الحكومة إلى تحقيقها في ظل الديمقراطية. واما التعريف الثاني المعروف بالتعريف الاجرائي Procedural أو العملي Operational أو المؤسسي Institutional للديمقراطية فانه يركز على مجموعة من الاجراءات والمؤسسات الديمقراطية الغربية لان قيم أو أهداف الديمقراطية الاساسية حسب هذا التعريف لا يمكن المحافظة عليها وضمان استمرارها الا من خلال وجود مجموعة محددة من الاجراءات والمؤسسات الديمقراطية كما تطورت في التجربة الأوروبية وتشمل الانتخابات والبرلمانات والاحزاب والنقابات والمؤسسات الاعلامية الحرة وكل انواع التجمعات السياسية والمهنية والانسانية التي تعمل ضمن قانون الدولة وفي ظل دستورها. ويثير اصحاب التعريف الأول مجموعة من التساؤلات على النموذج الديمقراطي الغربي، والاختلاف بين التعريفين يجسد في الحقيقة اختلافاً واسعاً بين مدرستين مختلفتين في النظرية الديمقراطية. ولقد كان هناك جدل نظري كبير ـ كما يذكر هنتنغتون في كتابه «الموجة الثالثة للديمقراطية» ـ بين اصحاب التعريف الأول واصحاب التعريف الثاني استمر منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى السبعينات الميلادية من القرن العشرين حيث حسم الجدل النظري ـ كما يضيف هنتنغتون ـ لصالح التعريف المؤسسي بسبب قناعة غالبية اساتذة السياسة في الغرب بان النظرية الديمقراطية لا يمكن ان تكون واضحة ومفهومة وقابلة للتطبيق الا من خلال المؤسسات الديمقراطية التي تطورت في الغرب. وكما ذكرت في مقدمة هذا المقال فان ادبيات الديمقراطية الحديثة سواء في الدول الغربية أو الدول النامية تركز دائماً على ربط الديمقراطية بالنموذج الغربي وذلك بالرغم من ان التعريف الفلسفي القيمي يرفض قصر الديمقراطية على التجربة الغربية. وفي ذلك يقول رونالد بيناك بان النظريات الديمقراطية الحديثة ترى ان الديمقراطية تعني أو ينبغي ان تعني نفس الشيء لكل دول العالم، وتقدم الديمقراطية على انها من ولادة أو انتاج الحضارة الغربية وحدها. ولكن هذه النظرة ـ كما يضيف بيناك ـ هي صحيحة فقط بالنسبة للتعريف الاجرائي المؤسسي للديمقراطية، وأما التعريف الفلسفي القيمي للديمقراطية فانه يترك الباب مفتوحاً أمام ربط قيم الديمقراطية الأربعة (الحرية ـ المساواة ـ العدالة ـ الاخوة) بحضارات انسانية اخرى غير الحضارة الغربية. وان من شأن تجاهل الكتابات الديمقراطية المعاصرة كما اعتقد للتعريف الفلسفي القيمي الذي يركز على اهداف الديمقراطية ولا يقصر وسائل تحقيقها على نموذج المؤسسات الديمقراطية الغربية، ان يضر بالحركة الديمقراطية العالمية وان يعيق اصلاح مشاكل الديمقراطية الغربية نفسها وان يترك آثاراً سلبية على عملية التحول الديمقراطية في الدول النامية ويوصد الابواب امام تطوير التجارب الديمقراطية المحلية المنبثقة عن نماذج وانماط الحياة السياسية في الدول النامية كما تطورت في تجاربها التاريخية الخاصة بها. وان اصرار منظري الديمقراطية المعاصرين على ربط الديمقراطية بالنموذج الغربي ينتج عن قناعتهم بان المؤسسات الديمقراطية الغربية هي أفضل وسيلة لتحقيق الاهداف الديمقراطية ولتحقيق الاستقرار السياسي وتجنب العنف، ولكن هذه النظرة تواجه ثلاثة عيوب أو اشكاليات مهمة جديرة بالطرح والمناقشة:

1 ـ ليس هناك من الادلة التي تكفي للجزم بأن النموذج الغربي للديمقراطية هو أفضل النماذج السياسية المتاحة عالمياً لتحقيق جميع اهداف أو قيم الحكم الصالح سواء سميناه حكماً ديمقراطياً أو اخترنا أي مسمى آخر له. فمن يمكنه القول بان تحقيق العدالة في الانظمة الديمقراطية الغربية هو افضل من تحقيقها في الأنظمة الاخرى. واذا اخذنا الحرية والمساواة على سبيل المثال بوصفهما اهم قيمتين من القيم الديمقراطية نجد ان هناك تساؤلات عديدة على عدم المساواة في الغرب مقارنة بمسألة ضمان الحريات. فبينما ترتبط الحرية السياسية والاقتصادية بالجانب الفردي للديمقراطية فان المساواة ترتبط بجانبها الجمعي. ولقد ادت الفردية في الرأسمالية الغربية الديمقراطية إلى الاخلال بمبدأ المساواة. ويوضح رونالد بيناك هذه المشكلة في مناقشته لمسألة التنازع أو التنافر Tension بين قيمتي الديمقراطية الاساسيتين: الحرية والمساواة. ولمعالجة مشكلة التنافر هذه، ولمواجهة تحديات الفكر الاشتراكي تطور في الفكر السياسي الغربي ـ كما يذكر بيناك ـ مفهوم الديمقراطية الاجتماعية Social Democracy وذلك للتخفيف من مشاكل عدم المساواة في الديمقراطيات الغربية. ولقد بقي اليسار الأوروبي لسنوات طويلة يصر على ان الاشتراكية هي ديمقراطية في حقيقتها ولكنها تعطي اهمية اكبر للمساواة من اهتمامها بالحريات السياسية أي عكس ما هو قائم في الديمقراطيات الغربية.

2 ـ ان النظريات الديمقراطية الغربية المعاصرة لا تعتقد فقط بأن المؤسسات الغربية هي المؤسسات الوحيدة في العالم القادرة على تطبيق الاهداف الديمقراطية ولكنها تؤمن بعالمية المضمون الغربي لهذه الاهداف وهو المضمون الذي تحدد وفق المنطلق الثقافي والديني للحضارة الغربية نفسها. فما يعتبر عدالة في الغرب ينبغي من وجهة نظر مفكري الغرب ان يعتبر عدالة في أي مكان آخر بالعالم. هكذا بالقوة. ولو ان مجتمعا آخر كانت له نظرة اخرى للعدالة مخالفة للنظرة الغربية لاعتبر هذا المجتمع غير ديمقراطي ومعادياً لحقوق الانسان. وتقع بعض الطروحات الديمقراطية الغربية في هذا الخصوص في تناقض عجيب. فهي تدعو الدول النامية إلى تطبيق النموذج الغربي للديمقراطية. ومن اهم اولويات هذا النموذج هو اقرار موقف ورأي الاغلبية ولكن اذا اقرت احدى هذه الدول بالاجماع وليس فقط بالاغلبية تطبيقاً للعدالة يخالف ما هو قائم في الغرب لاعتبرت هذه الدولة غير ديمقراطية ومعادية لحقوق الانسان حتى ولو كانت متبنية للنموذج الديمقراطي الغربي في حياتها السياسية. فكيف تطلب الدول الغربية من الدول النامية تطبيق الديمقراطية الغربية ثم ترفض قبول القوانين والانظمة التي تتخذها هذه الدول بالوسائل الديمقراطية. ان الدول الغربية ليست حريصة في الحقيقة على نقل النموذج الديمقراطي الغربي للدول النامية، ولكن حرصها الحقيقي هو على نقل مضامين القيم السياسية للحضارة الغربية إلى الدول النامية وهذه مسألة اخرى تعكس مظهراً واضحاً لامبريالية ثقافية لا يمكن قبولها أو السكوت عنها. ويقول الدكتور رالف بريبانتي استاذ العلوم السياسية في جامعة ديوك الاميركية في هذا الخصوص: من يستطيع ان يقول وان يثبت بان تطبيق العدالة في اوروبا واميركا هو افضل من تطبيق العدالة في بعض المجتمعات الإسلامية التي تصر على تطبيق عقوبة الاعدام؟ ان التزام هذه المجتمعات بتطبيق هذه العقوبة يأتي من تمسكها بالشريعة الاسلامية التي قصدت من وراء تطبيق هذه العقوبة أن تبرز اهتمامها بحق المجني عليه وحرصها على تماسك اركان المجتمع.. هذا التماسك الذي يمكن ان يُرد ـ كما أعتقد ـ إلى اهتمام الاسلام بمفهوم الامة بشكل يساوي اهتمام الديمقراطية الغربية بمفهوم التعددية. واضافة إلى ذلك فمن المهم ان نذكر بان القضاء الاسلامي في ظل الدولتين الأموية والعباسية كان اكثر نجاحاً في حماية حقوق النصارى واليهود من نجاح المؤسسات الديمقراطية الأميركية في حماية حقوق الاقليات في اميركا خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.

3 ـ ان المقولة التي ترى ان الديمقراطية الغربية هي أفضل وسيلة لتحقيق الاستقرار السياسي في المجتمعات الانسانية ينبغي ان لا تتسم بصفة الاطلاق التاريخية التي تعيشها. فالعنف السياسي ليس بظاهرة غير معروفة في الديمقراطيات الغربية. وان اغتيال الرئيس الاميركي جون كيندي هو دليل على ذلك وتمرد الطلاب في فرنسا واميركا في الستينات هو دليل آخر وقتل العنصريين الفرنسيين من انصار لوبان للشاب الجزائري وإلقاءه في النهر قبل عدة سنوات هو دليل ثالث، وعمليات التفجير التي مارسها الانفصاليون الايرلنديون في السابق هي دليل رابع وحدة رد فعل الايرلنديين البرتستانت ضدهم وقسوة البوليس البريطاني والمباحث البريطانية في التعامل معهم دليل خامس، واضطرابات لوس انجيلوس في عام 1994م هي دليل سادس، واحداث الشغب ضد منظمة التجارة العالمية في سياتل قبل سنتين هي دليل سابع. والادلة كثيرة وكثيرة جداً، وأحد الاساتذة الاميركيين الذين تبنوا الدفاع عن الدول النامية وعن اتهام شعوبها بالارهاب اكد في مقابلة اذاعية بان ظاهرة العنف السياسي هي ظاهرة غربية (أوروبية اميركية) اكثر منها ظاهرة خاصة بالدول النامية وان هذه الظاهرة قد انتقلت من الشمال إلى الجنوب وليس بالعكس. هذا اولاً، واذا كانت الديمقراطية الغربية ثانياً هي افضل وسيلة لتحقيق الاستقرار السياسي هكذا بشكل مطلق وبصرف النظر عن الظروف والاعتبارات الاخرى فلماذا ولّدت أو انتجت الديمقراطيتان الالمانية والايطالية اللتان تطورتا في نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات الميلادية في المانيا وايطاليا النظامين النازي والفاشي اللذين اعقباه الديمقراطية في هاتين الدولتين؟ ربما كانت ظروف الحرب العالمية الأولى والكساد الكبير هما السبب وربما كانت هناك اسباب اخرى، ولكن خلاصة القول هي ان الدول الديمقراطية الغربية يمكن ان تواجه ظروفاً وتحديات طارئة تعصف باستقرارها السياسي وذلك بصرف النظر عن قوة وعراقة المؤسسات الديمقراطية الموجودة فيها. وهناك بعض دول العالم غير الديمقراطية التي نجحت في تحقيق الاستقرار دون ان تعرف مظاهر العنف السياسي في حياتها.

* كاتب ومحلل سياسي سعودي