رسائل شهداء الانتفاضة

TT

حذاء صغير لكرة القدم هو كل ما اختاره الفنان سمير سلامة ليعكس هوايات محمد الدرة في معرض (مائة شهيد ـ مائة حياة) الذي لف عدة عواصم عربية وحط رحاله في أبوظبي مؤقتاً ليحكي للناس حيوات الشهداء من خلال الاشياء الصغيرة الحميمة التي أحبوها قبل ان يرحلوا في المواجهات من أجل الحرية ويتركوها خلفهم كرمز ورسالة لضمير عالم أوغل في العقوق والاستتار. والدرة أصغرهم وليس آخرهم لكنه في ذاك المعرض كان الأخير لصغر سنه فقد اختار الفنان ان يروي سير شهداء الانتفاضة حسب الأعمار المهدورة في ذلك الصراع غير المتكافئ بين العين والمخرز.

ولتأكيد منحاه الإنساني الذي يؤكد على قدسية الحياة الإنسانية بغض النظر عن جنسية حاملها، جاء الشهيد الأول في المعرض الألماني هارولد فيشر الذي تزوج من فلسطينية واستقر في بيت جالا قبل ان تفاجئه قذيفة صهيونية وهو يساهم في اطفاء حريقة في بيت أحد الجيران.

وهذا المشروع الفني المميز الذي يخاطب المشاعر والاحاسيس بعيداً عن لغة الآيديولوجيا شاء صاحبه ان يؤكد على قدسية الحياة البشرية بالاستعانة بالاشياء الصغيرة والحميمة لكل شهيد، فمما تنفطر له القلوب في ذلك المعرض الموجع ان تجد الطفل محمد أبو عاصي قد ترك لعبة الاتاري المفضلة لديه بينما يترك طفل آخر كرة قديمة كان يلعب بها قبل ان تطفئ شموع حياته القليلة رصاصة غادرة من بشر لا يحبون الحياة إلا لانفسهم، المليئة بالحقد والعدوان.

ومع كل قلم أو ورقة أو كراس مدرسي أو عجلة تركها صاحبها وحيدة وغادرها تجد قصصاً انسانية وملحمية لأطفال واجهوا الدبابات بالصدور العارية «كفارس أبو عودة» الذي حاول أهله ان يحبسوه ـ ومن يلومهم ـ فرفض الفكرة وصار يتسلل متنكراً بالكوفية ليواجه مع زملائه الدبابات الاسرائيلية التي ما كانت تفرق بين صغير وكبير، وهكذا رحل كما رحل غيره من الأطفال الذين لم يكملوا خربشاتهم البريئة على الدفاتر المدرسية.

والمعرض بهذه المواصفات، وبما جمعه معدوه بالتعاون مع أسر الشهداء، صرخة حزن عميقة تخرج كل صاحب احساس صادق عن ديبلوماسيته وهدوئه، لذا لم يكن غريباً ان يخرج الشيخ عبد اللّه بن زايد وزير اعلام الإمارات بعد افتتاح ذلك المعرض ليصرح بان الصهاينة هم النازيون الجدد، وان على اميركا ان تضع نفسها ومعها اسرائيل في قوائم الدول الإرهابية التي تعدها سنوياً، فمن يصنع هذه الفظائع هو الإرهابي الحقيقي.

وصدق الشيخ، فهذا ارهاب ما بعده ارهاب، والجديد على الولايات المتحدة انها تسمع الإدانة من اشخاص ما كانت تتوقع ان تأتي منهم بحكم مناصبهم وجذورهم في مؤسساتهم السياسية، فقد سمعتها في قمة عمان من ابن حافظ الأسد وسمعتها الأسبوع الماضي من ابن زايد بن سلطان آل نهيان، وستسمعها كثيراً ومن كافة المصادر، فلم يعد الانحياز الأميركي لاسرائيل مقبولاً حتى من قبل اصدقاء اميركا الخلص، فأمام الدم البريء المهدور لا يرغب أحد في مصادقة القتلة.

ان معرض (مائة شهيد ـ مائة حياة) الذي ركز على حيوات أول مائة شهيد في الانتفاضة الفلسطينية مرشح للامتداد ليشمل جميع الذين استشهدوا في مواجهات الأرض ومنحاه العام من اذكى أدوات العمل السياسي، فليس من الضروري دائماً ان نشتم ونتظاهر ونحلل ونتفذلك انما هناك فرصة لنحكي مأساتنا للعالم بلغة أخرى لا تحتاج إلى ترجمات وتفهمها جميع الأمهات، وهل هناك اكثر بلاغة من اشياء الشهداء لتخاطب الدنيا بعدهم، وتنقل الرسائل التي عجزوا عن إيصالها في حياتهم، وتقول للناس في كل مكان: تعالوا وانظروا ما تفعله هذه العصابات بهدوئنا، وسلامنا، وبساطتنا، فقد كنا مثلكم ولا نرغب في أكثر من حياة هادئة على أرضنا لكنهم أصروا على حرماننا منها.

ان امثال هذه الصرخات والتظاهرات هي التي تخاطب ضمير العالم بأكمل فصاحة انسانية، وحبذا لو تتكثف الجهود ليدور هذا المعرض في اكثر من عاصمة أجنبية ويحكي بهذه اللغة التي لا يوجد ما هو أبلغ منها عن شعب حر صغير ومسالم يتساقط اطفاله واشباله وهم في عمر الورود لأن العصابات الصهيونية تطمع في الاستيلاء نهائياً على أراضيهم بعنف القوة الغاشمة.

معرض الشهداء صرخة قلب حزين، وسيجد بالتأكيد في كل مكان الصدى الذي يستحقه من ملايين القلوب المتعاطفة.