الأرض: مفتاح اقتصادي

TT

في دراسة لافتة ومثيرة وضع هيرناندو ديسوتو المفكر الاقتصادي البيروفي ومرشح الرئاسة الحالي هناك انه يوجد 4 بلايين فقير في العالم الثالث ودول الكتلة الاشتراكية السابقة يملكون عقارات تقدر بتسعة تريليونات دولار أميركي.

وفي دراسة منفصلة قدرت حصة العالم العربي من هذه الدراسة بـ25 في المائة، وهذه ثروات هائلة قابعة من دون استغلال وبمعزل عن اصحابها، فليس غريبا ان تجد مواطنا في الاسكندرية بمصر يمتلك عشرة فدادين من الارض المميزة، ولكن لا يستطيع ان يقيم عليها مشروعا حقيقيا نظرا لان نظام الرهن العقاري غير جائز في مصر حاليا ويخضع لعراقيل شرعية وادارية مختلفة. وليس غريبا ان تجد موظفا في دمشق دخله يساوي 100 دولار شهريا ويسكن في شقة يقدر ثمنها بـ250 ألف دولار، ولا يستطيع التصرف بها ويطور من وضعه المعيشي ويحسنه نظرا لان انظمة البيع العقاري مرهونة بوضع سياسي اشتراكي يعطل آلية الايجار الربحي ويعرقل البيع السوي، او موظف في الخبر يملك قطعة ارض لا يستطيع البناء عليها لان نظام الرهن العقاري غير معمول به والبنوك لا تقرضه بضمان الارض، فبالتالي لا يستطيع هذا الشخص تطوير عمله او بناء الارض.

وهذه مجرد امثلة ونماذج ناتجة لأنظمة وقوانين معنية بالعقار وتملكه غير دقيقة وبالية وتجعل جميع تلك الاصول رؤوس اموال ميتة. اصحاب العقار لا يستطيعون رهن ما يمتلكون فعلا، حيث ان انظمة تسجيل ملكية العقار بها معاناة كبرى في كثير من دول العالم العربي. واذا سجلوا فلن تعترف بهم الادارات البلدية وادارات تقديم الخدمات كالكهرباء والمياه والهاتف.

الارض اول اصل عرفه الانسان وأول مجال للاستثمار، وتعتبر معطلة اقتصاديا في عالمنا العربي اليوم. فبينما تمتلك الفئات اصولا الا انها تظل عاجزة عن تحويلها الى رأسمال ولديها منازل واراض ولكن بدون صكوك.

من اهم التحديات التي تواجه العقل الانساني هو كيفية الفهم والوصول الى تلك الاشياء التي نعلم بوجودها ولكن لا نستطيع رؤيتها، كالوقت مثلا هو حقيقة ولكن لا نشعر به وبادارته الدقيقة الا بوجود ساعة او تقويم تاريخي، وذات الشيء ممكن ان يقال عن رأس المال الذي ممكن ان يخرج من اماكن هي في ذهن الغالبية ركام واطلال وهي تماما الكنوز المخفية للاصول التي تم جمعها عبر الوقت.

واليوم الحكومات العربية مطالبة بمراجعة دقيقة وموضوعية لاخراج الاقتصاد من رحم السياسة واطلاق انظمة تحريرية عادلة كفيلة باصلاح وضع شعوبها والرفع من مستواهم المعيشي وذلك عن طريق اصلاحات بسيطة ولكن بالغة الاهمية. ويتم ذلك عبر التجرد من النظرة التقليدية لقوانين التملك والاستثمار وهي التي كانت احد اسباب تخلف المنطقة اقتصاديا والتمعن في تجارب الدول النامية الاخرى التي استفادت وطورت من اقتصادياتها وراعت وجهتي النظر الشرعية والاجتماعية (ماليزيا مثالا) في ذلك.

ان الامانة الشرعية الملقاة على عاتقنا في مهمة «الخلافة» في الارض و«احياء» الارض لا تتحقق بالمسارات المعمول بها اليوم، كما ان كل من جاء بادعاءات «الاصلاح» في الاراضي واقام الشعارات واستحدث الدوائر والوزارات تحت هذا الهدف كان في واقع الامر دمارا على الارض ونكالا على الشعب.

ان للارض رمزية خطيرة في مسار الاصلاح الاقتصادي، فباصلاح انظمة استثمارها نكون وضعنا اقدامنا على الطريق السليم ولعله من اللافت هنا الاستشهاد بأن اغلب واكبر مصدر لرأس المال الجديد في اقتصاديات الغرب كان نتيجة رهن رجال اعمال لأرضهم ومنازلهم والاقتراض عليها. هناك العديد من الافكار التي يجب طرحها والعمل على تطويرها وهي افضل من ابقاء الوضع على ما هو عليه بل بمخاطبته وتطويره.

ان مثال تحرير سياسة التملك والاستثمار العقاري ما هو الا نموذج عن العزل الفكري الاقتصادي الذي تقوقع العالم العربي فيه وآن الاوان للخروج منه. واذا كانت «الارض» التي خسرناها سياسيا نموذجا سلبيا ووصمة عار نتأمل ان يكون طريق «تحريرها» اقتصاديا هو خط العودة للاستقامة الاقتصادية.