العقوبات «الذكية»: من حصار صدام إلى محاصرة الأردن وسورية!

TT

فشل الديبلوماسية العراقية في قمة عمان (باعتراف عدي بن صدام) في استقطاب الموقف العربي المتعاطف مع العراق، اعاد المبادرة الى يد واشنطن، وعرقل الاختراقات العراقية للحصار الدولي التي حققتها بغداد في العواصم العربية غير الخليجية.

غير ان الغباء السياسي العراقي المشهود له لا يبذه سوى غباء مشروع العقوبات «الذكية» الذي تتولى ادارة بوش تسويقه وإجراء اتصالات ومحادثات بشأنه مع عواصم العرب واوروبا قبل تقديمه كمشروع متكامل الى مجلس الأمن في يونيو (حزيران) المقبل.

التفاصيل القليلة والمبهمة التي سربتها واشنطن الى الآن عن المشروع الاميركي كفيلة برفع حواجب التعجب فوق العيون، وباثارة اعتراضات لدى اكثر الدول والانظمة حماسة لرفع عبء الحصار عن كاهل شعب العراق ووضعه على كاهل نظام صدام.

الغريب ان الاردن وسورية وايران وتركيا، وهي الدول المقصودة اساسا بمشروع الحزام الاميركي الجديد، لم ترفع الحواجب بعد، ولم تثر اي اعتراض، ربما لأن احدا فيها لم يقرأ او يسمع، او لأن احدا فيها قرأ ولم يفسر ويستوعب، او لأن عواصمها تنتظر بناء المشروع لتبدي رأيها فيه وموقفها منه! الاغرب ان باقر الحكيم شيخ «المقاومة الاسلامية» العراقية المرابط في طهران غمرته البهجة، وهو يعلن ان جماعته مستعدة للحوار مع اميركا بشأن اقامة «محمية» للمعارضة في جنوب العراق. ولا شك ان سبب فرحته هو موافقة اولياء الامر في العاصمة الايرانية على مفاتحة اميركا بهذا الشأن الخطير. ولولا الموافقة الضمنية لما تجرأ هو على الاعلان.

والاستفهام هنا هو حول ما اذا كان استعداد ايران للترحيب بهذه المحمية يعني موافقتها، في المقابل على مشروع العقوبات «الذكية» الذي يقضي بمرابطة مراقبين دوليين على حدودها وفي موانئها ومطاراتها. وهو استفهام موجه ايضا الى سورية والاردن وتركيا.

ومهمة هؤلاء المراقبين حسبما نشرته «واشنطن بوست» عن المشروع الاميركي «الذكي» هي متابعة عمل المؤسسات الحدودية في هذه الدول للحيلولة دون تسريب اية سلع استراتيجية الى العراق قد يستفيد منها صدام في اعادة بناء اسلحة الدمار الجماعي.

هل ذكاء ادارة بوش على هذا المستوى من الغباء، بحيث تتصور ان دولا مستقلة تقبل ان تضع سيادتها بتصرف مؤسسة رقابية اجنبية ولو كانت تحمل رمزيا صفة دولية، لتمارس فرض هيمنتها وتحكمها بما يمكن او لا يمكن تصديره من سلع الى دولة مجاورة، حتى ولو كانت هذه الدولة محكومة بنظام رديء وخطر مثل نظام صدام؟! واذا قبلت تركيا المسايرة اصلا لأميركا، فهل يقبل الاردن؟ واذا قبل الاردن، فهل تقبل سورية او ايران باستقبال وايواء مراقبين دوليين لا احد يعرف مصالحهم وارتباطاتهم الفردية والشخصية؟

وكيف تتصور ادارة بوش ان هذه الدول تقبل بما يرفضه العراق؟! لقد رفض العراق اقامة المفتشين على ارضه، اذن، فالذكاء يكمن في نقلهم الى موانئ ومطارات وحدود الدول المجاورة تحت عنوان «المراقبة» بدلا من عنوان «التفتيش» ذي السمعة السيئة! وتصل الاستهانة الاميركية بالذكاء العربي الى درجة «الاستهبال»، فواشنطن تريد ارسال مراقبين دوليين لمراقبة الدول العربية، في الوقت الذي تمارس «الفيتو» في مجلس الامن ضد ارسال مراقبين دوليين الى الضفة وغزة لمنع اسرائيل من انتهاك القرارات والمعاهدات الدولية ومواصلة حصارها الجماعي لشعب عربي مجرد من كل اسباب الحماية والدفاع عن النفس! وتستمر ادارة بوش في اطلاق بالونات الاختبار الذكية، فتسرب اخبارا عن مشاورات جارية حاليا مع الدول العربية المعنية حول المشروع الرقابي، بل هي تحدد موعدا للقاء اميركي مع الدول الاربع في مايو (ايار) المقبل لدراسة «التفاصيل الفنية» للمشروع.

وعن التشاور وعن اللقاء، لم يصدر في حدود علمي، تعليق رسمي في عواصم الدول الاربع ينفي او يؤكد. ولعل في هذا الحديث اليوم دعوة الى هذه الدول، وبصورة خاصة الاردن وسورية، الى الحذر والانتباه، والى الرد والايضاح وحسماً لكل التباس يمس سيادتها على اراضيها وحدودها.

هذا عن الجانب الخطر في مشروع العقوبات «الذكية» الذي يمس السياسة والسيادة، ولا اعتقد ان الدول العربية المعنية تقبل به، لكن من الافضل الاعلان منذ الآن عن موقفها قبل ان يواصل سوء فهم ادارة بوش استكمال المشروع ودفعه الى مجلس الامن، بحيث يصعب عندئذ رده واحباطه.

لكن الجانب الذي يمس الأمن الاقتصادي والمصالح التجارية للدول المعنية لا يقل خطرا عن الجانب السياسي والسيادي. فسيتمكن المراقبون الدوليون من جمع معلومات كثيرة عن التبادل التجاري والنشاط الاقتصادي لهذه الدول. وسيتسبب عملهم الرقابي وتدخلهم في عمل الاجهزة الجمركية والاقتصادية الوطنية في الحدود والمطارات والموانئ، في عرقلة حركة التجارة وزيادة الرسوم وتكلفة النقل والترانزيت، والتأخير وارهاق المصدرين والمستوردين باجراءات روتينية هم اصلا يشكون منها.

اضرب مثلا هنا بشركة «لويدز» الدولية التي فُرضت على الاردن لمراقبة تجارته مع العراق. وقد وصلت الشكوى الوطنية من عرقلتها حركة التجارة ورفع تكاليفها الى درجة اضطرار الحكومة الى الاعلان عن وقف عملها. ولا ادري ما اذا كان قد تم فعلا كف يدها عن مهمتها.

والنصيحة الصادقة والامينة للدول العربية المعنية هي ان تزجي بدورها النصيحة لادارة بوش، وافهامها ان فرض رقابة دولية على الامن الاقتصادي العربي وحرية التجارة العربية لن يؤدي الى حصار نظام صدام ماليا ونفطيا، فالحدود الطويلة والصعبة ضمنت له منذ فرض الحصار الدولي اللجوء الى التهريب، ولا سيما عبر تركيا برا، وعبر ايران برا وبحرا، في حين ألحقت الضرر والاذى بتجارة الدول العربية.

لقد اقتنعت اميركا والمجتمع الدولي اخيرا بلا انسانية الحصار الدولي الذي نال من شعب العراق الشقيق. وجهل ادارة بوش يثبت «ذكاءه» الدولي على مستوى العالم كله، وهو يعاقب دول المنطقة التي التزمت بحدود امكانياتها وطاقاتها بقرار الحصار، فيما يكفل لنظام صدام الافلات والتهرب منه.

في الاستراتيجية الحديثة للحروب الباردة والساخنة، فكل سلعة تموينية مدنية يمكن اعتبارها سلعة استراتيجية وعسكرية. وبالتالي فمن العناء والشقاء فرض رقابة دولية على الدول العربية للتمييز بين ألوف السلع التي يمكن تصديرها يوميا الى العراق.

ولكي يكون الحصار ناجعا ومفيدا وجادا، بل قابلا للتطبيق عمليا، فعلى العرب المعنيين بحصار نظام صدام اقناع واشنطن بأن الحصار الحقيقي يجب ان يتركز ويمارس في موانئ ومطارات الدول الصناعية، ومنها اميركا بالذات. فهذه الدول هي التي زودته على مدى عشرين سنة بالمواد الصناعية الاستراتيجية والتقنيات العسكرية، فمكنته من بناء برنامجه في التسلح بأسلحة الدمار الشامل.

هناك في هذه الموانئ والمطارات، يجب ان يقيم المراقبون الدوليون ليحولوا مرة اخرى دون قيام الشركات والمصانع الرأسمالية الاميركية والاوروبية بتزويده بما يشتهي من معدات وتقنيات لا تتوفر في مطار سوري او مرفأ اردني.

ولعل الدول العربية المعنية تصر على المشاركة في وضع مشروع الحصار الجديد، وعدم ترك الحرية لادارة بوش في صياغته، بحيث تنفرد وحدها في تحديد السلع الممنوع تصديرها الى العراق، كيلا تكون بين السلع «الممنوعة» اميركيا بضائع ومواد تموينية ومدنية تشكل ركيزة الصناعة الوطنية المؤهلة للتصدير.

تقول المعلومات التي سربتها ادارة بوش انه لم يبق للمشروع كي يصبح جاهزا سوى «تعاون» دول الحدود، ولعل الدول المعنية تقول علنا ما اذا كانت هناك حقا مشاورات جارية حاليا مع ادارة بوش او غيرها، او ما اذا كانت هناك محادثات بهذا الشأن، كي لا يفاجأ الرأي العام العربي بـ«واقع دولي» جديد، وكي لا تفاجأ هذه الدول بمشروع دولي لمحاصرتها، فيما يفلت نظام صدام من الحصار.