روسو بقلم الخليل

TT

ثمة فكرة شائعة في الأدب العالمي تقول إن السويسريين شعب لم يولّد الشعراء والأدباء والرواية، لأنه شعب مرتاح، بلا آلام، ولا شيء يشحذ القرائح كالألم. وقيل، في باب التعميم، الشيء نفسه عن الاسكندنافيين. ولاحظت أن هذا الانطباع شاع ورسخ حتى جرَّد سويسرا من أعظم أدبائها، جان جاك روسو. وضمه هذا الاعتقاد إلى تراث فرنسا لأنه عاش فترة في باريس. ولكن الألم والتشرد هما أيضا اللذان صنعا روسو، ابن الساعاتي الذي فقد أمه رضيعاً، ومن ثم تنقل في الأقاليم والبلدان فقيراً يخدم في البيوت والقصور، وينام في نزول المشردين، ويسير مشياً من سويسرا إلى فرنسا إلى ايطاليا. وقد تحول هذا التشرد في الطبيعة إلى متعة فلم يعد يركب عربة حتى لو توفر له ذلك. وطلب روسو مساعدة الموسرين ورعايتهم. وخصوصاً رعاية النساء منهن. وقد احتضنته المدام دو فارانس بعضاً من سني عمره الأول، كما احتضنت ماري هاسكل جبران خليل جبران حتى وفاته. وأحب روسو المتشرد المرأة التي هنئ في كنفها وسماها ماما. وكان يغادرها إلى بؤس آخر في مدينة أو بلد آخر ثم يعود إليها. وعندما يضع كتابه «الاعترافات» بعد تركه سويسرا وفرنسا إلى انكلترا، سوف تحتل المدام دو فارانس الفصول الأولى من هذا الأثر الأدبي المثير. و«الاعترافات» نوع من المذكرات، أو الاستذكار غير الدقيق، لحكاية تيهان بائس في مشاق الحياة وصنوف الخيبات والهوان. وقد ترجم الكتاب إلى العربية العلامة الأستاذ خليل رامز سركيس. لكن النص العربي هو نص خليل رامز سركيس لا نص روسو. وغنى المترجم في اللغة والمفردات وشغفه بالعربية وتملكه العجيب منها وتبسطه المريح في ذخائرها، لا يبقي للنص الفرنسي سوى التفاصيل. وقد تأثر بعض كبار الرومانسيين الفرنسيين مثل لامارتين وشاتوبريان بأعمال روسو بسبب أسلوبه، لكن هذا الأسلوب يغيب تماماً في عملية التعريب المحكمة، إذ يفرد المترجم معارفه، كأنه يتحدى مؤلفه وليس كمن ينقله. فيقول مثلاً: «وكنت كلما تماسك المنحدر وخفَّت كثافة الشوك فجاز من ثمة بعض الحصي، ذهبت فأبعدت فأتيت بأضخم ما أمكنني حمله منها فكوَّمته على السياج، ثم قمت ارميه حصاة حصاة، إذ أعجبني منظرها وقد انحدرت فطفرتْ فتطايرتْ قبلما انتهت إلى قرارة المهوى».

ومَن لن يقرأ روسو بالفرنسية أو الانكليزية، فالأفضل ألا يقرأه بعربية خليل رامز سركيس. هنا، سوف يغيب روسو ليحضر هذا الساحر باللغة العربية، الذي يقول ما قال روسو بلغته هو: «فإن أمضي مشياً والجو صحو، والبلد جميل، ليس يستعجلني أمر. فنعمت بهذي البهجة فطبت بها ملء سحرها». هل لديك شك بأن هذا هو الخليل المعاصر وليس المسيو روسو؟