هل سيتحول فوز «حماس» إلى مأساة للشعب الفلسطيني..؟!

TT

لا حركة «فتح» خسرت خسارة نهائية أخرجتها من السلطة، ولا حركة «حماس» فازت فوزاً كاملاً ومطلقاً وضع كل مقاليد الأمور في يدها، وهذا هو الذي يجعل نتائج الانتخابات الفلسطينية الأخيرة بكل هذه الخطورة، وهو الذي ينعش كوابيس الحرب الأهلية التي بقي الفلسطينيون يعتبرونها محرمة وخطاً أحمر لا يجوز الاقتراب منه.

عندما تهيمن حركة «حماس» على المجلس التشريعي الفلسطيني، وبالتالي على الحكومة الفلسطينية، التي من المفترض ان ترى النور خلال أيام، بينما لا يزال موقع الرئاسة، المدعوم بجيش عرمرم من الأمن والشرطة والمخابرات وبعشرات الألوف من الموظفين، بيد حركة «فتح»، فإن عوامل الصدام في ظل معادلات وموازين القوى هذه ستبقى قائمة وفي أي لحظة وانطلاقا من أي مكان.

هناك تجارب كثيرة في العالم استطاع خلالها الذئب التعايش مع الحمل، واستطاع المتعارضون تسيير أمور بلادهم برأسين. ففي فرنسا على سبيل المثال، كانت الجمعية الوطنية وبالتالي الحكومة بيد أحد الأحزاب، بينما كانت الرئاسة بيد حزب آخر. وفي الولايات المتحدة كان الحزب المعارض في الكثير من الاحيان يهيمن على «الكونغرس»، وكان يوظفه ضد الرئيس الأميركي الذي ينتمي الى الحزب الحاكم.

لكن مشكلة المشاكل تكمن في ان الشعب الفلسطيني لم يبن مؤسساته الراسخة بعد حتى تكون هناك إمكانية لتسيير العمل وقاطرة الحكم برأسين، على غرار ما هو عليه الوضع في الولايات المتحدة وفرنسا ودول ديمقراطية أخرى، وأن الأراضي الفلسطينية حتى بما في ذلك قطاع غزة، لا تزال في حقيقة الأمر محتلة، وأن إسرائيل لا تزال تتدخل تدخلاً سافراً في شؤون الفلسطينيين الداخلية الاقتصادية والسياسية والأمنية وكل شيء.

ولعل ما يزيد الطين بلة، كما يُقال، ويجعل الصورة أكثر سوداوية ومأساوية، ان حركة «فتح» ترى ان عدم المشاركة في حكومة وحدة وطنية هو الرد المناسب على انتصار حركة «حماس»، والواضح حتى الآن ان مثل هذه المشاركة غير واردة على الإطلاق، وأن هدف الذين خسروا هو حرمان المنتصرين من خشبة الخلاص التي هم بأمس الحاجة إليها بسبب قلة الخبرة وعدم حسم الخيارات والقدرة على تغيير الثوابت السابقة ببرامج «براغماتية» قابلة للتعديل والتغيير وفقاً لمقتضيات الحال واستحقاقات المراحل.

تعتقد حركة «فتح»، وهو اعتقاد فيه الكثير من الصحة، ان الفوز الذي حققته «حماس» جعلها في ورطة غير سهلة، فهي كانت كمن يبحث عن بضعة قروش فعثر على كنز مرتفع القيمة، وهي لم تكن تريد أكثر من وجود مؤثر في المجلس التشريعي تستطيع من خلاله تنغيص عيش السلطة الفلسطينية وكسر احتكار حركة «فتح» للقرار الفلسطيني والانفراد بكل الكعكة الفلسطينية، لكنها أي «حماس»، ولأسباب كثيرة غدَت معروفة، وجدت نفسها وقد أصبحت القوة المطلقة في السلطة التشريعية التي عليها تشكيل الحكومة الجديدة البديلة لحكومة أحمد قريع (أبو علاء) الفتحاوية.

ولهذا فإن حركة «فتح»، وهي ترفض الاشتراك مع حركة «حماس» في حكومة وحدة وطنية، تريد ألاّ تتحمل أي جزء من مسؤولية المرحلة الجديدة، وتريد إلقاء العبء كله على الطرف الآخر، وتريد إيصال خصمها الفائز والمنتصر الى الفشل الذريع والى إثبات ان هذا الخصم لا يزال غير مؤهل للحكم وقيادة السفينة، وبخاصة في وقت من أصعب الأوقات المصيرية والحاسمة.

والحقيقة ان حركة «حماس»، التي تعترف وعلى ألسنة كبار قادتها وفي مقدمتهم خالد مشعل، بأنها لم تكن تتوقع فوزاً بهذا الحجم، قد أصبحت في وضع لا تحسد عليه، فهي، على عكس توجهات وقناعات كوادرها وأعضائها وحلفائها، باتت مضطرة لقبول كل ما كانت ترفضه من الاعتراف بإسرائيل الى القبول باتفاقيات أوسلو وبخريطة الطريق وبمبادرة السلام العربية، وإلا فإنه ليس أمامها سوى الانكفاء والانسحاب والتخلي عن هذا الانتصار الكاسح الذي داهمها على حين غرة.

ربما ان حركة «حماس»، التي داهمتها مفاجأة الانتصار الذي لم تكن تتوقعه، تراهن الآن على انهيار حركة «فتح» وتشظيها، وتتوقع بالتالي قبول أحد شظايا هذه الحركة الجريحة بالاشتراك معها، أي مع حركة «حماس» في تشكيل حكومة وحدة وطنية وفي تحمّل اعباء المرحلة الجديدة ودفع استحقاقاتها، لكن وحتى وإن تحققت هذه الأمنية، فإنه يبقى ان مربط الفرس هو التحول بين عشية وضحاها من حمل السلاح ومن الدعوة لـ «الجهاد»، الى الدعوة لسلام أوسلو وخريطة الطريق ومبادرة السلام العربية والاعتراف بإسرائيل، والتفاوض معها على أساس الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية.

فهل ستستطيع حركة «حماس» القيام بهذا..؟!.

إن الإشارات التي أطلقها قادة هذه الحركة، إن في غزة وإن في دمشق، تعطي انطباعاً واضحاً بأن حركة «حماس» غدت جاهزة لتغيير خط سيرها وأنها لم تعد زاهدة في السلطة وفي الحكم، بعد أن وصلت اللقمة الى الفم، وأن إبداء الاستعداد لهدنة مدتها عشرة أعوام، معناه الاستعداد للتخلي عن المقاومة و«الجهاد» والكفاح المسلح والقبول بسياسة الأمر الواقع وبشروط أقل من الشروط التي قبلت بها حركة «فتح» لتبني هذه السياسة.

لكن يبقى ان المشكلة، حتى على افتراض ان حركة «حماس» تحت وطأة الجوع الشديد للسلطة، ستتخلى عن كل ثوابتها وبرامجها وتسلم رقبتها لمعادلات الأمر الواقع، هي ان حركة «فتح»، لا يمكن ان تتخلى عن وضعها الحالي وعن جيوشها وامتيازاتها بسهولة، وهذا سيكون بمثابة الشرارة الجاهزة للحرب الأهلية التي بقي الشعب الفلسطيني يرفضها وبقي يعتبرها خطاً أحمر وأم الكبائر والكارثة التي ما بعدها ولا قبلها كارثة!!.

لن تتخلى حركة «فتح» عن موقع رئاسة السلطة الوطنية الذي كان فصَّله الراحل ياسر عرفات على مقاسه هو، ولم يكن يتوقع ان ينتقل الى زميله محمود عباس (أبو مازن) بهذه السرعة، ثم ولن تقبل هذه الحركة بالتخلي عن جيوشها الجرارة ولا عن عشرات الألوف من المواقع الوظيفية في الوزارات والسفارات والدوائر والمؤسسات، وهذا كله سيقود حتماً الى الصدام والمواجهة إذا قررت حركة «حماس» التخلي فعلاً عن مواقفها وثوابتها السابقة تحت إلحاح إغراءات السلطة والحكم.

لقد أصبح الوضع الفلسطيني كله في مأزق حقيقي وفي غاية الصعوبة، ولعل ما يخطر على البال، أمام كل هذا الذي حصل، والذي من المتوقع حصوله، هو: هل ان إسرائيل يا ترى هي التي قامت أساساً برسم هذا «السيناريو» لإثبات ادعاءاتها السابقة واللاحقة بأنها لا تجد الشريك الفلسطيني المؤهل لعملية السلام، الذي من الممكن التوصل معه الى ما يمكن تسميته المساومة التاريخية..؟!.

إن ما يعزز هذا الاحتمال، هو ان إسرائيل انسحبت من قطاع غزة من جانب واحد، وأنها بقيت تواصل إضعاف الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وتواصل ضرب هيبة السلطة الوطنية، وأيضاً بقيت تردد أنها لا تجد الشريك الفلسطيني الذي تفاوضه، وذلك رغم ان محمود عباس (أبو مازن)، معروف بالتزامه بالسلام وبالعملية السلمية وعلى أساس الحد الأدنى.

ونؤكد هنا أنه من غير الممكن اتهام «حماس» أنها متورطة في مثل هذا «السيناريو» الإسرائيلي، لكن المعروف أن النوايا الحسنة في مثل تعقيدات القضية الفلسطينية قد تقود في الكثير من الأحيان الى الكوارث المحققة، ولعل ما يمكن اعتباره كارثة محققة هو أن يتحول الفوز الذي حققته حركة المقاومة الإسلامية الى وقود للحرب الأهلية المدمرة، التي بقي الشعب الفلسطيني يخشاها، والتي بقي هذا الشعب يعتبرها الخط الأحمر وكبيرة الكبائر.