«اللي شبكنا يخلصنا»

TT

ليس سرا في واشنطن أن ادارة الرئيس جورج بوش أصرت، رغم اعتراض اللوبي الصهيوني النافذ، ورغم نصائح بعض المرشحين الديمقراطيين المرتقبين للانتخابات الرئاسية المقبلة (وبينهم هيلاري كلينتون وجون كيري)، على أن تتاح لحركة «حماس» فرصة المشاركة في الانتخابات الفلسطينية... فكان ما كان من نتائج ضربت عرض الحائط بتوقعات واشنطن (والاستخبارات الاسرائيلية) المسبقة لواشنطن لهذه النتائج.

إصرار الرئيس بوش على السماح لـ«حماس» بخوض الانتخابات الفلسطينية ربما كان نابعا من التوقعات الاستخباراتية التي كانت ترجح فوز «فتح»، وربما كان مرده ما يسميه المدير التنفيذي لمؤسسة «نيير ايست بوليسي»، روبرت ساتلوف، «التزامه الرسولي» في العملية الانتخابية وقناعته بدورها في تحويل المتطرفين الى معتدلين.

قد لا تكون الانتخابات الفلسطينية آخر مثال على أن رياح الشرق الأوسط لا تجري، دائما، بما تشتهيه سفن واشنطن. ولكن، مهما تعددت دوافع قرار الرئيس الاميركي، يبقى هو المسؤول «الدولي» الاول عن وصول «حماس» الى موقع السلطة في البرلمان الفلسطيني، ما يعني انه إذا كانت ثمة أزمة من فوز «حماس» بالانتخابات النيابية، فانه يقع على عاتق من تسبب بها ـ أي ادارة الرئيس بوش ـ إيجاد الحل المناسب لها خصوصا إذا كان حريصا على ان يتوج رئاسته بتنفيذ رؤيته «للدولتين» الديمقراطيتين القائمتين، جنبا الى جنب، على الارض الفلسطينية.

إذن، عنوان المرحلة اليوم في فلسطين هو ـ على حد المقولة المصرية المعروفة ـ «اللي شبكنا يخلصنا»... وأبواب الخلاص لا تزال مشرعة رغم موقف رئيس حكومة اسرائيل بالوكالة، ايهود اولمرت، الرافض للتفاوض مع «حماس».

إذا جاز اعتبار الانتخابات الفلسطينية مؤشرا على نجاح غرسة الديمقراطية المستوردة من واشنطن في أراضي الشرق الاوسط القاحلة تعدديا، وإذا كانت ممكنة إقامة نظام ديمقراطي قبل تنشئة جيل من الديمقراطيين، يجوز عندئذ القول إن أبهى إنجازات الديمقراطية الاميركية المعلبة هو تحويل «الإرهابيين» إلى «حاكمين» شرعيين.

ولكن هل يعني ذلك تحويل شعب كامل اقترع بأكثريته الساحقة «للارهابيين»، الى شعب «إرهابي» في وقت يظهر فيه أحدث استطلاع للرأي أجراه معهد «نيير ايست كونسالتنغ» من رام الله أن 84 في المائة من الفلسطينيين الذين استفتتهم يؤيدون تسوية سلمية مع اسرائيل مقابل 16 في المائة أعطوا رأيا معاكسا ؟

صحيح ان «حماس» سترأس حكومة بلا دولة، ودولة بلا حدود معترف بها، وشعبا لا يزال تحت الاحتلال... ولكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: إذا كانت الاصولية الصهيونية، ممثلة بحزب الليكود، هي الجهة الاسرائيلية الوحيدة التي استطاعت التقدم خطوة على طريق التسوية السلمية بدون ان تتعرض لاتهامات جدية بـ«الخيانة»... فلماذا لا تكون الاصولية الفلسطينية، ممثلة بـ«حماس»، قادرة هي ايضا على التقدم بخطوة مقابلة، ومن نفس موقع القوة الذي انطلق منه الليكود؟

من الواضح اليوم أن «حماس» تتمتع بشرعية سياسية تفوق بكثير الشرعية التي يدعيها العديد من أنظمة الشرق الاوسط. إلا ان ما تحتاجه هذه الشرعية للتعامل من موقع القوة مع تسوية منصفة للقضية الفلسطينية، قبل ما يطلب منها من نبذ للعنف واعتراف بالكيان الاسرائيلي، هو اعتراف الولايات المتحدة بأهليتها لقيادة الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة الدقيقة في تاريخه ومسار الشرق الاوسط ككل.

هذا الاعتراف يبدأ بتفهم واشنطن لأولويات الشعب الفلسطيني ومواصلة تقديم المساعدة المالية له ويبدأ ايضا بعدم تفويت الدول الاوروبية ـ المانح الأول للفلسطينيين ـ فرصة التقاط اليد الممدودة من «حماس» عبر دعوتها اللجنة الرباعية الدولية حول الشرق الاوسط إلى حوار معها.

إذا لم تكن الدوافع الايجابية كافية لحمل الغرب على القبول بحوار مع حركة «حماس» فإن التبعات السلبية لتجاهل هذه الدعوة لا تشجع واشنطن ولا الغرب الاوروبي، على تفويت فرصة الحوار مع «حماس» في ظل المعطيات الاقليمية الراهنة، فأي مقاطعة غربية لحكومة تشكلها أو تشارك فيها «حماس» قد تدفع الحركة ـ المسؤولة شرعا عن شعبها الفلسطيني ـ الى تعويض حجب الغرب لمساعداته المالية الى توثيق علاقاتها مع ايران وبالتالي تعزيز المحور الايراني ـ السوري في المنطقة في وقت يسعى فيه الغرب جاهدا لاحتواء البرنامج النووي الايراني، والتطرف في الاراضي الفلسطينية، في وقت تستعد فيه اسرائيل لانتخابات قد تعيد الاصوليين الصهيونيين الى السلطة...

وقد لا يكون من اللائق التذكير بأن ثمن «اعتدال حماس» لا يحمل الخزينة الاميركية سوى 375 مليون دولار سنويا (70 مليونا ادرجت في موازنة العام 2005 و 225 مليونا سلمت عبر منظمات غير حكومية و88 مليونا عبر منظمة الامم المتحدة).