فوز حماس.. الأسباب والتداعيات

TT

أخطأت حين تصورت أن حركة حماس لن تهزم حركة فتح في الانتخابات التشريعية الفلسطينية التي جرت في الأسبوع الماضي في شفافية وحرية ونزاهة لم يكن أحد يتصور أنها يمكن أن تتحقق في ظل الظروف السائدة. ولم أكن وحدي في هذا الخطأ بل أن كثيرين، ومنهم مراكز تحليل الدول العظمى ودول المنطقة ذاتها وقعوا في نفس الخطأ، كما انه يبدو لي أن حماس نفسها فوجئت بما حدث ولم تكن مستعدة له، وكان التوقع الأقوى أن تفوز فتح بأغلبية معقولة، وان تحصل حماس على مقاعد تجعل منها معارضة فعالة تنخرط في العمل السياسي وتمد الهدنة التي سبق أن قررتها المنظمات الفلسطينية كلها، ويكون وجودها، مع الاحتفاظ بخيار العودة للنضال المسلح، تدعيما لموقف فتح في المفاوضات التي كانت من المأمول أن تستأنف لمحاولة التوصل إلى تسوية تتفق مع الشرعية الدولية وتحقق آمال الشعب الفلسطيني وحقوقه، إذ أن النجاح في أية مفاوضات يكون أقرب إذا بدت للجميع البدائل التي يمكن أن تتمخض عن فشلها، وهو نفس الأسلوب الذي استخدمته إسرائيل.

وما دامت التوقعات خابت والحسابات طاشت فقد اصبح من المهم أن توقف قليلا عند الأسباب ثم نحاول استشراف النتائج والتداعيات ولكني أود أن ابدي قبل ذلك ملاحظتين تفرضان نفسيهما؛ أولاهما أن هناك تناقضا في موقف من ينادون بأن الديمقراطية هي العلاج الناجع لكل الأوجاع، وانه يجب تفضيلها باستمرار على الاستقرارـ كما ورد في تصريحات رسمية أمريكية على أعلى مستوى ـ فإذا جاءت النتيجة غير ما يتوقعون أو يفضلون يرفضون الاعتراف بها أو التعامل معها رغم أن الانتخابات التي جرت في أجواء مُلبدة بالغيوم ومليئة بالأخطار، جاءت بشهادة الكثيرين ومنهم الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر، على درجة عالية من النزاهة. وهذا يؤكد مرة أخرى مقولة إن الولايات المتحدة تريد ديمقراطية على مقاسها وهواها وليست نابعة من إرادة الشعوب.

ولعلنا في هذا الصدد نشير إلى نتائج الانتخابات الرئاسية التي جرت أخيرا في عدد من دول أمريكا اللاتينية التي جاءت بالطريق الديمقراطي برؤساء معارضين للسياسات الأمريكية يتعرضون حاليا لحملات تشويه من جانب واشنطن. وخرج علينا الأمريكيون والإسرائيليون وبعض الأوروبيين بنظرية عدم قبول التعامل مع من لا يقبلون مسبقا الاعتراف بإسرائيل ويتخذون مواقف معتدلة متناسين مقولة شيمون بيريز الشهيرة ـ التي يتناساها أحيانا، «عن أن الإنسان لا يعقد صلحا مع أصدقائه بل مع أعدائه»، ولو صحت تلك النظرية التي طلع بها علينا مسؤولون غربيون وإسرائيليون، لما كان الرئيس أنور السادات قبل التفاوض مع مناحم بيغين الذي جاء إلى الحكم على أساس برنامج غاية في التشدد، يرفض الاعتراف بأي حق عربي سوى «حق» الخضوع لأطماع الليكود وأعتى المتشددين الإسرائيليين.

ويقودني هذا إلى الملاحظة الثانية، وهي أن الحياة تتطور، وان المنخرط في العمل السياسي يمكن عند الاضطلاع بمسؤوليات أن يبدل أساليبه لتحقيق الأهداف الثانية حيث أن الطرق إليها يمكن أن تتعدد.

وإذا أردنا أن نحلل باختصار الأسباب التي أدت إلى فوز حماس، فانه يمكن أن نرجع البعض منها إلى اعتبارات تتعلق بها وأخرى إلى اعتبارات تخص الآخرين. فما من شك أن المقاومة المسلحة التي حملت حماس لواءها وما ترتب عليها من خسائر ألحقتها بالإسرائيليين أدت ـ في نظر الكثيرين ـ إلى انسحاب إسرائيل من غزة مهما كانت الطريقة التي تم بها، ثم ما أظهرته حماس من انضباط أعضائها عندما التزموا بالهدنة ـ إلا في حالات الرد على الاستفزازات الإسرائيلية الصارخة ـ كل هذا أحاطها بهالة من التقدير والإعجاب لدى الشعب المتعرض لعذاب الاستعمار وإهاناته المتوالية. كما أن زعماء حماس حرصوا على أن يحيطوا أنفسهم بهالة أخرى من الزهد والنزاهة وحسن إدارة مؤسساتهم استهوت الكثيرين، في مقابل الأخطاء التي ارتكبتها فتح التي بدت منقسمة على نفسها، مترهلة، وحائرة بين وضعها كجزء من السلطة ووضعها كحركة تحرير مما اضطرها إلى تنازلات ومساومات لا تمس الجوهر ولكنها بدت للكثيرين ضعفا في مواجهة التعنت الإسرائيلي.

ونشير كذلك إلى شكوك حول ممارسات بعض القيادات ونزاهتها، والتنافس الضاري بين أجهزة الأمن، بالإضافة إلى غياب القيادة الفلسطينية التاريخية لياسر عرفات. وتتحمل الولايات المتحدة وإسرائيل مسؤولية كبيرة أيضا في هزيمة فتح فعلى الرغم من كل الجهود التي بذلها ابو مازن لضبط الأمور وتهيئة الأجواء فلسطينيا لاستئناف عملية السلام، فان إسرائيل استمرت في سياسة العدوان والتشدد، وبناء المستعمرات واستكمال بناء الجدار التوسعي وعزل الأراضي الفلسطينية عن القدس، وحتى عندما انسحبت من غزة فإنها ـ لولا جهود مصر التي أفسدت جزءا من مخططها ـ لكانت تريد أن تجعل من القطاع سجنا للفلسطينيين وتفصل بينهم وبين الضفة التي تخطط للاحتفاظ بأكبر جزء منها.

وقفت الولايات المتحدة موقفا اقل ما يقال عنه إنه موقف سلبي لأنه تغاضى ـ إن لم يكن شجَّعَ ـ السياسات الإسرائيلية التي تمخضت عن إضعاف موقف ابو مازن وفتح، فجاء جزء من التصويت لحماس بمثابة احتجاج على عجز السلطة وعدم قدرتها على مواجهة المخططات الإسرائيلية وتحريك الأمور في الاتجاه الصحيح.

وتراكمت كل هذه الأسباب لتؤدي إلى هذه النتيجة التي أفرزتها الانتخابات، والتي أصابت الكثيرين بدهشة لعلها تفسر بعض ردود الفعل المتسرعة وغير العقلانية من جانب بعض القوى الدولية المفروض فيها أن تفكر وتحلل وتدرس قبل أن تندفع في اتجاهات غير مفيدة وقد تضطر إلى الرجوع عنها. وأود هنا أن أشير إلى النقاط التالية:

أن تهديد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بوقف المساعدات للشعب الفلسطيني إلا إذا لبت حماس شروطها وتنفيذ هذا التهديد، هو بمثابة تعريض الشعب الفلسطيني لمزيد من المعاناة، تكون دافعا نحو التطرف وليس للاعتدال، وينعكس بالضرورة على المواقف التي يمكن أن تتخذها حكومة حماس من موقع المسؤولية.

أن السوابق التاريخية تميل إلى تأكيد أن الانتقال من موقف المعارضة التي تملك ترف المناداة بشعارات والقيام بتصرفات في اتجاه معين، إلى موقف «اليد التي في النار» على رأي المثل، ينعكس بالضرورة على المواقف، فتخلق مرونة لا تمس جوهر الهدف، ولكنها تأخذ في الاعتبار حقائق الأوضاع وليس رومانتيكية مطلوبة بالقطع في بعض الظروف ولكن لها بالضرورة حدود.

إن الشعب الفلسطيني لم يصوت لحماس تفويضا لها لإقامة دولة إسلامية تحدث تحولا في المجالات الثقافية والاجتماعية، وإنما كان تصويته أساسا تصويتا احتجاجيا على بعض الأوضاع المتعلقة بعدم حدوث تقدم على طريق تحقيق الاستقلال، وبالتالي فان تحرير الأرض من المُسْتَعْمِرِ له الأولوية الأولى ويجب أن تتحد الجهود كلها وراء افضل الوسائل لتحقيق ذلك في ظل الظروف الداخلية والإقليمية والدولية السائدة. وهناك ـ على حد تعبير التوارة ـ وقت للحياة ووقت للموت، كما أن النضال به أشكال مختلفة تتساوى في قيمتها بقدر ما تقرب من الهدف. ولعلي أشير الى تصريحات إيجابية عن استعداد حماس لمد الهدنة.

إن ذلك يقتضي أن تعمل حماس ـ وهي في السلطة ـ على التجميع لا التفريق، ومن المهم أن تتعاون كل القوى الوطنية الفلسطينية في هذا الشأن، وبالذات منظمة فتح التي اعتقد أن مشاركتها في الحكم ـ وهو أمر قد يكون صعبا عليها بعد أن كانت في مقعد قيادة السلطة وحدها، من شأنه أن يدعم الموقف الفلسطيني في مجموعه.

أن الانتخابات الإسرائيلية القادمة سوف تكون مهمة في الفصل بين القوى التي تريد السلام حقيقة وليس افتعالا كما تفتعل كاديما مثلا، والقوى التي تتظاهر مثل الذئب بأنها «جدة ذات الرداء الأحمر» لتتمكن من افتراسها، وهذه حقيقة يجب أن تدركها الدول الغربية إذا كانت حقا تريد السلام والاستقرار، فلا تزيد الموقف اشتعالا بالتهديد بالويل والثبور، كما يجب أن تحرص عليه القوى الوطنية الفلسطينية وان تشجعها عليه الدول العربية. ويجب أن نتوجه إلى الرأي العام الإسرائيلي الذي توجد فيه بالفعل قوى تتطلع إلى السلام الذي يحميها من جنون بعض زعمائها الذين يغامرون بالمستقبل، واعتقد أن الأساس يمكن أن يكون إحياء المبادرة العربية التي استطاع شارون أن يعطلها باعتدائه على الأرض الفلسطينية غداة الإعلان عنها.

وعلى الدول الغربية أن توضح ـ وبقوة ـ لإسرائيل ضرورة التوقف عن تصرفاتها العدوانية الاستفزازية حتى تتيح الفرصة لاستكشاف إمكانات التطورات الجديدة لتجاوز الشكل إلى مضمون يمكن أن يكون إيجابيا.

هذه الأفكار أثارها فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية وردود الفعل التي ترتبت عليه سوف تكون على الجميع، إذا حسنت النيات، ألا يتسرعوا في الحكم أو رد الفعل، حتى يمكنهم أن يساعدوا على تجنب ريح صرصر عاتية لا تبقي ولا تذر.