«حماس» وإسرائيل: لا سلام بلا ضغوط.. لكن على مَن؟

TT

أقل ما يمكن قوله عن النجاح الساحق الذي حققته حركة المقاومة الفلسطينية (حماس) في الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة، هو أن صعود الحركة الى السلطة وما شكله ذلك من مفاجأة مذهلة، لم تكن في حسبان خصمها السياسي، «فتح»، أو الجهات الدولية المختلفة بما فيها اسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا، أظهر حدة الشعور السائد لدى الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال بالخيبة مما تحقق منذ اتفاق أوسلو في العام 1993. كما أن الواقع السياسي الفلسطيني الجديد أظهر بوضوح أن الدعوات الدولية التي وُجهت الى منظمة التحرير الوطنية خلال السنوات الأخيرة الى اختيار الطريق، الذي يقود الى اقامة الدولة، من خلال مواصلة المفاوضات والتحلي بالصبر وضبط النفس مقابل تسوية دائمة، وصلت الى طريق مسدود. فما حدث على الأرض منذ التوقيع على اتفاق أوسلو، يشير الى مصادرة مزيد من الأراضي وقتل مزيد من الفلسطينيين وبناء مزيد من المستوطنات والشروع بتشييد الجدار الفاصل الذي ينطوي على ضم مزيد من الأراضي الفلسطينية. كما أن «السلطة الفلسطينية»، التي أبصرت النور في العاصمة النرويجية، والتي تم الترويج لها على أساس أنها الهيئة التي تسبق اقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة، أثبتت عجزها عن قيادة الشعب الفلسطيني، وإدارة الأموال والموارد الممنوحة لها، ولا سيما حمل الحكومة الاسرائيلية على التفاوض معها بحسن نية. كما أن انتخاب رئيس للوزراء في اسرائيل كانت لجنة تحقيق كاهان الاسرائيلية قد خلصت الى أنه «مسؤول بصفة شخصية» عن المجازر التي ارتكبت في صبرا وشاتيلا، والتي راح ضحيتها 3500 شخص، لم يثر أي ردود فعل دولية حادة، بخلاف ما حدث في ضوء الفوز الانتخابي لـ«حماس».

ولعل انتخاب «حماس» يدل بطريقة أو بأخرى على الرغبة لدى أغلبية الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة في العودة الى البرنامج السياسي ما قبل أوسلو، الذي يتمثل في تحرير موطنهم. ولذلك، صوتوا لصالح قوة سياسية تبقى الى حد كبير حركة مقاومة وطنية، مماثلة لحركات المقاومة العديدة التي جاءت قبلها، والتي تؤمن بضرورة الدخول في مفاوضات سياسية، في نهاية المطاف، ولكن مع الابقاء على خيار الكفاح المسلح، وهو ما شكل أيضاً أساساً للبرنامج الذي قامت عليه منظمة التحرير الفلسطينية قبل أوسلو.

واذا كانت اتفاقات أوسلو، قد خلقت زخماً باتجاه السلام، الا أنها ساهمت أيضاً في تحريك مشروع سياسي تشوبه القيود لم يكن مألوفاً لدى حركات المقاومة الوطنية، التي كان الهدف الرئيسي منها تحرير شعوبها من وطأة الاحتلال، وليس محاولة الحكم رغم افتقارها الى المكونات الأساسية للدولة. الا أن زخم أوسلو انقطع ولم تتمكن حتى «خريطة الطريق» التي رسمتها اللجنة الرباعية من مدِّها بالحياة، لا سيما أن ما قدمته أوسلو للفلسطينيين، بمن فيهم الراحل ياسر عرفات، بإنشائها «السلطة الفلسطينية»، تمثلت في التزامات الدولة السيادية ومظاهرها ورموزها ومطباتها، ولكن دون السلطة والنفوذ التي تتمتع بها الدول ذات السيادة. وبالتالي، كان لدى الفلسطينيين «رئيس» و«حكومة» و«مجلس تشريعي منتخب» و«شرطة»، الأمر الذي جعل من السهل لاسرائيل والولايات المتحدة، وبعض الحكومات العربية، ممارسة ضغوط مفرطة على «السلطة الفلسطينية» لتحقيق المعجزات من دون أن يكون لديها الوسائل التي تمكنها من القيام بذلك. كما أن هذا الوضع سمح بإهانة الرئيس عرفات ومحاصرة مقر «الرئاسة» ما أدى الى تحييده سياسياً وتقويض نفوذه وسط احتجاج دولي خجول. وقد أربكت مظاهر الدولة الفلسطينية الرأي العام الدولي وأضعفت تأييده للقضية الفلسطينية. ومما لا شك فيه أن استمرار هذا الوضع أدى الى قتل عرفات سياسياً، علماً بأنه كان يجسد النضال من أجل الدولة الفلسطينية، كما أدى في نهاية المطاف الى قتل «الرئيس» الذي لم يُسمح له وللشعب الفلسطيني بأن يودع مثواه الأخير في القدس. وبتجاهلها رئيس «السلطة الفلسطينية»، ساهمت الادارة الأميركية الحالية والحكومة الاسرائيلية في تحقيق الصعود السياسي لـ«حماس»، وهي الحركة التي نمت من مشاعر الاهانة واليأس لدى جيل جديد من الفلسطينيين.

واليوم، تمارَس الضغوط على «حماس» لتتخلى عن كفاحها المسلح، وتنزع سلاح مقاتليها وتلغي ميثاقها وتعترف بوجود دولة اسرائيل. وتمارَس الضغوط عليها للقبول بكل المطالب التي تتقدم بها اسرائيل والولايات المتحدة مقابل مد السلطة الفلسطينية بالدعم المالي. وكانت التنازلات نفسها قد لنتزعت في الماضي القريب من منظمة التحرير الفلسطينية. ومع ذلك، فإن الفلسطينيين لا يرون حتى الآن الضوء في نهاية النفق اذ أن بواد قيام دولة فلسطينية متواصلة الأجزاء، وقابلة للاستمرار تبدو متباعدة اليوم أكثر من أي وقت مضى، الى حد أن الوضع اليائس الذي يعيشه الفلسطينيون بات يقود بعض القوى السياسية الى استمالة الشباب الفلسطينيين شيئاً فشيئا نحو استراتيجيات انتحارية. فبدلاً من ممارسة المزيد من الضغوط على الفلسطينيين وممثليهم المنتخبين شرعياً، آن الأوان لتدرك اللجنة الرباعية أن خريطة الطريق لم تعد خياراً صالحاً، اذ كان من المفترض أن تقود الى اتفاق نهائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين في نهاية العام 2005، ونحن الآن في بداية العام 2006. الا أن فشل خريطة الطريق لا يُعزى الى فشل السلطة الفلسطينية فشلت (وان كانت لها اخفاقاتها) فحسب، بل الى أن العبء كان دائماً يقع على الطرف الضعيف، وهو الطرف الفلسطيني. واذا كانت الرباعية جدية فعلاً بشأن السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتسعى الى تعزيز الاستقرار في منطقة من العالم يعود فيها عدم الاستقرار الى حد كبير الى التطلعات الشرعية للشعب الفلسطيني والإسرائيلي على حد سواء، فلعله يترتب على الرباعية أن تدرك أيضاً أن ممارسة الضغوط على القوى السياسية الراديكالية في اسرائيل قد تجدي ثمارها أكثر من الضغط على هؤلاء الذين يشعرون، في المقام الأول، أن ليس لديهم ما يخسرونه. ولو أدركت واشنطن أيضاً أن دعمها الأعمى لإسرائيل لا يخدم السلام، لكان من شأن ذلك أن يساعد في تحقيق قفزة كبيرة في الطريق نحو السلام. اذ أن تقديم الادارة الأميركية مساعدات مالية سنوية الى اسرائيل تتجاوز قيمتها 4 مليارات دولار يمنح سيد البيت الأبيض نفوذاً على الحكومة الاسرائيلية، يفوق الى حد كبير النفوذ الذي يمكن أن يمارسه على «حماس».