أحجية فريدمان

TT

على طريقة أن الطريق إلى «فولتير» لا بد أن يمر بـ«مارتن لوثر»، صك توماس فريدمان في مقاله يوم أمس قاعدة سياسية جديدة لا تخلو من الطرافة التي تتحلى بها مقالاته أكثر من تعبيرها عن مسلمة معرفية في الشأن السياسي، حيث اعتبر أن بلدان الشرق الأوسط، هكذا بإطلاق، لا يمكن لها التخلص من نموذج «ديكتاتورية صدام» وصولاً إلى «ديمقراطية جيفرسون» إلا عبر «الخميني»، في تعليقه على الانتصارات الساحقة للإسلاميين عقب دخولهم معترك اللعبة الديمقراطية التي منحتهم النسب الكبرى في كثير من المواقع، وكان آخرها الفوز الكاسح لحركة حماس، مع كل ما تعانيه الحركة من إشكالات معقدة، تبدأ مع المشروعية التي قامت عليها، ولا تنتهي عند الاستحقاقات السياسية التي في انتظارها ورؤية المجتمع الدولي لها. فالموجة الجديدة للتحول الديمقراطي، التي قاتلت إدارة بوش لتدشينها في المنطقة، لم تسفر إلا عن فوز خصومهم من الإسلاميين وبشكل لم يكن في الحسبان حتى لدى أكثر المتشائمين من المعنيين بالمنطقة. هناك إشكالية منهجية في طريقة النظر إلى طبيعة الحراك الاجتماعي في العالم العربي، فيكفي أن يلتقي أمثال السيد فريدمان من الصحفيين أو غيرهم من الباحثين المختصين نخبا ثقافية تعد في أجندة مسبقة، ليبنوا تصوراتهم على ما يقال لهم، من الذي لا يعبر عن الواقع بشكل حقيقي، وإذا كان الخطأ في المقدمات ينتج بالضرورة خطأ مثله في النتائج، فإن من الطبيعي أن تتسع الهوة في قراءة الواقع وشروطه التي أنتجته. وإذا تجاوزنا حجم الطرافة والتعميم لما يذكره فريدمان، ويشاركه فيه آخرون، فإن المحزن حقاً أن تظل هذه الصورة النمطية هي السائدة في هكذا دراسات وشخصيات لها أثرها على التيارات السياسية الحاكمة في الولايات المتحدة. فالمشكلة أعمق من ثنائية النظام الحالي والبديل الإسلامي، إذ أن الفضاء المجتمعي الذي تتحرك فيه السياسة في البلدان العربية والإسلامية، ليس مشابهاً، فضلاً عن أن يكون مطابقاً، لأي سياقات أخرى، حتى ان محاولات مقارنة التجربة التركية أو الماليزية الأقرب إلى التجربة العربية بحكم مركزية الإسلام أيضاً ليست دقيقة، فنحن نتحدث عن هواجس متباينة وأولويات مختلفة، الحال أن العربي منذ لحظة النهضة التي ما زلنا نجترها لم يتجاوز صراع فرح أنطون ومحمد عبده، وكل ما يقال هو استنساخ لجدلية الديني والسياسي ومسألة الهوية وعلاقة الإسلام بالتحديث والمدنية وإن بأشكال وصيغ أخرى جديدة، والمفارقة أن تيار «الأصالة» بما فيه من سلفيين وتنويريين ومحافظين يزداد يوماً بعد يوم ذكاء وفطنة لشروط اللعبة. فها نحن نسمع مثلاً عن تجارب مثيرة في الكويت لتأصيل مسألة الديمقراطية بخطاب سلفي، وسنرى قريباً في بيئات أخرى جدلاً قريباً من ذلك لقضايا تحديثية ومدنية أخرى، فالزمن الآن هو زمن التحولات داخل هذه الجماعات التي بدأت تعي شروط المجتمع الجديد وتحاول أن تتكيف مع ما لا يتعارض مع خطابها الأساسي وثوابتها التي لا تمسها بسوء بحيث تستطيع أن تناور بنفَس طويل جداً لإحراج المجتمع الدولي في أعز ما يملكه ويؤمن به من ديمقراطية وتعددية، وإن كانت هذه المحاولات لما تفطن له باحث متميز كالفرنسي «أوليفيه روا» في رصده لحركة الأسلمة التي تسري ببط وتؤدة ونجاح مذهل في المجتمعات العربية، لتكون بديلاً للانقلاب السلمي التحتي لمجتمع الستينات الذي اندفع باتجاه المدنية بشكل راديكالي، لم يراع منطق الهوية الذي ينتصر في أحلك الظروف ويمكن أن يصنع مارداً متوحشاً من داخل السجون والمعتقلات.

أنا لست هنا معنياً بالوقوف إلى إحدى الضفتين قدر حرصي على أن نحلل الواقع بشكل صحيح حتى لا نقع في كوارث التعميم للتنصل من مسؤولية الأخطاء الكبرى، التي تم ارتكابها في السابق بسبب مواقف سياسية لم تحسب بشكل دقيق. فالجميع يعلم محاولات التوظيف للإسلاميين إبان المد الشيوعي ثم الاصطدام معهم لاحقاً بعد أن تحولوا إلى جماعات معارضة تطمح إلى السلطة وصولاً إلى اللحظة الراهنة التي يبدو أنهم سيخطفون فيها ولاء حتى التنظيمات السياسية التي كانت تختلف معهم في السابق، والأمر في ذلك كله بحاجة إلى المزيد من الفهم والقراءة الواعية وليس «الطرفة». وبمناسبة الطرفة التي لا تخلو منها جعبة السيد فريدمان، فهو يرى أن الحل والخروج من المأزق لمشروع الشرق الأوسط الكبير هو تخفيض اسعار النفط، حتى تصل 20 دولارا للبرميل، ربما كانت أحجية في شكل طرفة.. من يدري !

[email protected]