أمس مع الضحايا واليوم مع الجناة

TT

ما زلت أذكر ذلك اليوم الذي وصلني فيه بريد غادر فاجأني بأنه سجل حادثة «نفق النهضة»، وحالما ضغطت الزر ظهر المشهد مرعبا إياي، وأصابني برهبة أكثر مما تفعل أفلام هتشكوك، وانطلقت في قلبي صرخة أشبه بصرخة بطلة فيلم هتشكوك الشهيرة، التي تشبه سن السكاكين.

حين رأيت فتاتين، بكامل الحشمة، يلفهما السواد من أعلاهما لأقدامهما، يحيط بهما شابان أو ثلاثة، يستعرضون أمام ضعف الفتاتين، وهو ما يفهمونه على أنه ما يميز الرجال! ويسعدون بهذه التصرفات أنفسهم وجمهورا من أصدقائهم! بل ويتمادون في ذلك ويسجلون ذكرياتهم هذه، التي تحولت إلى كابوس مجتمعي، على ذاكرة الهاتف في ظل خدمة البلوتوث.

حين رأيت هذا المشهد عز علي واقع اختبرته بنفسي جيدا وأعرفه، وهو أني مشيت في شوارع فرانكفورت وباريس في ساعة أكثر تأخرا من تلك الساعة التي مشيت فيها الفتاتان، فما سمعت كلمة تجرح الأدب، ولم يلاحقني فيها شاب، ولم يزرع في نفسي الخوف، الذي زرعه هؤلاء في نفوس بنات وطنهم، الذي يصدح فيه الأذان خمس مرات، مذكرا بآداب الإسلام وفرائضه وأخلاقه.

تحت هذا الضغط كتبت مقالة بعنوان «بيد من حديد»، كنت أريد فيها أن توضع صورة التحرش البشعة هذه على لوحات مدارس البنين وتجمعات الشباب لتذكرهم بأن العدالة تلاحق المجرمين مهما اختبأوا عنها في الأنفاق أو الليل البهيم. وطالبت بعقابهم بقسوة يد من حديد، لكن قارئا حكيما هو الدكتور عـيـدروس عـبـد الـرزاق جـبـوبـة من لندن، ذكرني بأن أتعوذ من الشيطان، وأن اتذكر أن عقوبة التشهير لا تتفق مع حقوق الإنسان الدولية، ولا الإسلامية أيضا، فتعوذت من الشيطان وحمدت الله على أنني لم أكن قاضيا تؤثر عليه الصور والعواطف.

اليوم بعد ان كشفت الجريمة، وأن المعتدين والمتسترين والموافقين، بالصمت عليها، كانوا أحد عشر شابا، لم يجدوا قيما منسجمة مع الرجولة تمنعهم من التجنى على ضعف شابتين مجردتين من القوة والحيلة، بعضهم شاهد وبعضهم ظل ساكتا كشيطان أخرس، وبعضهم شارك باستمتاع. صور مخجلة فعلا، وجريمة تستحق اهتمام الرأي العام.

الأحكام التي نشرت في الصحف على افراد هذه القضية من الشباب، كانت 12 عاماً على المتهم الأول والثاني بالسجن 10 سنوات، وجلد كل منهما 600 جلدة، وحكم القاضي أيضا على المتهمين من الخامس حتى الحادي عشر، وهم من شارك بسلبيه الصمت بالسجن 6 سنوات والجلد 400 جلدة لكل منهم.

في هذه القضية دافع محامو الدفاع بقولهم، إن القضية تأثرت بكونها تحولت الى قضية رأي عام. وأن الرأي العام أثر على مجرى القضية.

هكذا قالوا، وأنا أقول إنه في المحاكم الأميركية تمتنع لجنة المحلفين عن قراءة أو مشاهدة ما يتحدث عن القضية في الإعلام، ضمانا لعدم تأثر المحلف بما يقال، لأن الرأي العام هو وجهات نظر تتلون فيها الآراء بتلونها من اليمين إلى الشمال، هذا أولا، ثانيا نحن كتاب الرأي العام يجوز لنا أن نتأثر بتقلبات الرأي، لكونها في محصلة الأمر رأيا بين اليمين والشمال، حتى يظهر صدق ما نرى، لكن القضاء والقضاة ليسوا مثلنا، ويجب ألا يكونوا مثلنا، فعلى حرفتهم وبعدهم عن التأثر بالرأي العام تتعلق حياة الناس، وعلى منهج عدالة أحكامهم تتحدد مصائر البشر.

في النهاية يجب التأكيد أن هؤلاء الشباب أخطأوا ببشاعة، وإن كنت أرى أن جريمة من شارك ليس كمن تفرج، وليت شبابنا بعد هذا الدرس البشع يدركون كم هي مرة مثل هذه التصرفات!

[email protected]