عفريت «خواجة»!

TT

يروي أحد أساتذة علم النفس العرب، حكاية عجوز ريفية تجاوزت التسعين، استيقظت من نومها ذات صباح لتجد نفسها تتحدث اللغة الإنجليزية بطلاقة ظاهرة، فما كان من أهلها الذين أدهشتهم المفاجأة إلا حملها إلى أقرب (معالج)، توهم الناس فيه إخراج الجن والعفاريت ليخرج هذا الجني الإنجليزي (الخواجا)، الذي استوطن جدتهم العجوز، فانهال عليها الرجل ضربا وخنقا حتى كادت العجوز تلفظ أنفاسها بين يديه، وعبثا حاولوا إخراج هذا العفريت (الخواجا) من جسد العجوز، وظلت المرأة ترطن عليهم طوال الوقت حتى اضطروا إلى الاستعانة بمترجم يترجم لهم هذيانها العجيب.

هذه المرأة حينما خضعت للتحليل النفسي، استطاع المحلل أن يتوصل إلى خبرة غائرة داخل لاوعي العجوز لم تعد تتذكرها، وهي أنها عندما كانت طفلة كانت تعمل لدى أسرة إنجليزية يتحدثون إليها بلغتهم، التي ظلت مخزونة في داخلها، وقد أسهم اضطراب الشيخوخة بعد ذلك في استحضارها من جديد!

تذكرت هذه الحكاية ذات يوم حينما كنا نشتغل على لقاء صحافي لمجلة «سيدتي» مع أحد المرضى النفسيين، بمساعدة أحد «المعالجين» المعروفين، حيث أصر الزميل وحيد جميل على أنه لم يجر ذلك اللقاء الصحافي مع المريض، وإنما مع الجني الذي بداخله، فراح وحيد يسأل (الجني) عن الصحافة والفن والمرأة في عالم الجن، وكان المريض يجيب عليه بإجابات لا تخلو من الطرافة والغرابة، وفاز على أثرها الزميل وحيد جميل بجائزة أفضل لقاء صحافي في مسابقة صحافية محترمة.. وقد جاء ذلك المريض بعد ذلك إلى مكتبي في المجلة يطلب استعادة صور التقطها له المصور، وهو في أوضاع متشنجة ومتكلفة، فدار بيني وبينه نقاش هادئ، ذهب على أثره مباشرة إلى مستشفى الصحة النفسية ليزورني بعد شهر من العلاج، وقد استعاد سيطرته على نفسه وتخلص من أوهامه التي عاش داخلها طويلا، بأنه يحمل جنيا في داخله.

ولكيلا يظن البعض بي الظنون، وبعض الظن إثم، فأنا من المؤمنين بكل ما ورد في القرآن الكريم والسنة الشريفة بخصوص الجن والمس وغيرهما، ولكن ما أردت طرحه هنا أن الكثير من الحالات التي يشتغل بها عدد من (المعالجين)، هي حالات أمراض نفسية لا علاقة لها بالجن، وأن مكان علاجها الطبيعي ينبغي أن يكون في مستشفيات الصحة النفسية، لأن التعامل معها بالإرجاء والإبطاء قد يحول الكثير من حالات الفصام العارضة إلى مستديمة، ولا استبعد أن يكون الكثير من المرضى الذين تضمهم عنابر المستشفيات النفسية، هم ضحايا لبعض هؤلاء الذين أضاعوا عليهم فرص العلاج المناسب في الوقت المناسب.. ففي ثقافة تعتمد على الجن والعفاريت، ليس غريبا أن يتحول هؤلاء إلى مشجب نعلق عليه الكثير من مشكلاتنا الحياتية والمرضية، وليس غريبا أيضا أن يكثر بيننا أدعياء العلاج ومستخرجو الجن والعفاريت، فرزق «البله» على المجانين، وحسبنا الله.

[email protected]