العراق: هل تكون الفوضى حقا بديلا للانسحاب الاميركي..?

TT

الرؤية السائدة والغالبة ان انسحاب اميركي من العراق من شأنه أن يعجل بإنزلاقه وبتعجيل متسارع نحو الحرب الاهلية، في ظل افتقاره لسلطة مركزية قوية، اذ ستتقاسمه صراعات الطوائف والقبائل والميليشيات وسيرتهن، بإرادة امراء الحروب، والمشهد المتخيل ستزداد كارثيته عندما يقع ليس في بلد قصى، بل في بلد رئيس بالمنظومة الاقليمية، وهذا ما سيهدد كل الجغرافية المحيطة بالعراق والتي يتكئ العالم بأسره عليها في حركته.

لنجرب ان نناكف هذه الرؤية وندعو الى انسحاب اميركي من العراق خلال هذا العام، بعد ان اعلن عن انسحاب ياباني في منتصفه وبريطاني في نهايته، وهنا لسنا مدفوعين بما يراه البعض بأن الوجود الاميركي هو أب كل ازمات العراق، او نكون متفقين مع الذي يؤمن واهماً بأن التغيير كان يجب او كان ممكنا ان يتم من الداخل، او ان يقدر للعراق ان يضع رجله على طريق الديمقراطية يوما دون العامل الخارجي.

وبداية دعونا نقول بفكرة ان التوازن بشقيه الداخلي والاقليمي سيكون ضمانة العراق ضد المخاطر المحتملة، فداخلياً هناك نوع من توازن القوى او توازن قوة التدمير او الرعب يجعل الاطراف تثيب الى رشدها قبل ان تفكر بتوسعة التصادم ورفعه من تحت الرماد وجعله مكشوفاً، بل انا متيقن من ان الاطراف ستثيب الى رشدها عندما تستيقظ صباحاً، وتجد ان القوى التي حاولت ان تلعب دور الموازن والحكم بين الاطراف، قد غابت، وعندئذ عليهم ان يجتهدوا في ايجاد اساليب العيش معاً، اذ ان الذي يجري في العراق هو كمثل أب (مع فارق القياس) متحمل المسؤولية والكل يمارس العبث، اتركوهم لوحدهم سيكونون راشدين تحت الاضطرار، دعوا العراقيين يكسبون الثناء وكذلك الملامة.

اذ انه اذا ما انهارت السلطة المركزية للدولة فستسيطر الميليشيات الكردية والشيعية، ولتجنب هذا السيناريو فإنه سيستلزم من السنة ان يتكيفوا وينبذوا العنف، بل ستكون مصلحتهم في تقوية الدولة لا في تهشيمها كما تفعل الجماعات المسلحة الان، وهذا الهاجس نفسه سيضعف من احتمالية قيام انقلاب عسكري او سيطرة بقايا الجيش الموالين لبنية النظام السابق، ناهيك عن ان الامريكان لن يبتعدوا لا استخباراتياً ولا كأذرع قوة.

صحيح انه تظل ممكنات الارتداد على الديمقراطية كبيرة في العراق، بسبب عدم اشتداد ورسوخ المجتمع المدني وضعف بنية الديمقراطية، ولكن لا احد يجازف بذلك دون الوقوع بفخ تقسيم العراق، اذ انه اصبح من قبيل الوهم الركون الى المعادلة السابقة، بأن الذي يسيطر على قلب القرار في بغداد سيخضع الاطراف.

من جانب اخر فإن انسحاب اميركي من شأنه ان يسقط المبرر لحمل السلاح، وينهي الحافز والباعث الذي وظفته الجماعات المسلحة لجذب المقاتلين لها، وسيوقف خزان التجنيد والدعم المادي الخارجيين لها، في حين ستصبح الدوافع الداخلية للقتال عند ذاك منكشفة وبلا غطاء وطني، فإذا كانت الحصيلة الى الان الفشل في اقناع «المقاومة» والعقل العربي المساند لها بأن ما تفعله في العراق هو اعاقة بناء الدولة، وتعميق الانقسامات في مجتمعها، وتعريض سكانها لمزيد من الموت والعذابات المتصلة، وتدمير البنية التحتية، وإفشال اي تأسيس لقاعدة اقتصادية، وضرب وتهجير البنية الاجتماعية، ولهذا فلم يبق إلا الانسحاب عله يكون مقنعاً لمن يحرق الغابة ليخرج الدب.

اقليمياً لا شك ان اغلب دول الاقليم لم يكن من مصلحتها استقرار الاوضاع في العراق في ظل مشروع اميركي يستهدفها، ويريد قسرها على تبنيه، مع سيناريو ممكن التكرار، بأن تعتمد معارضة داخلية وتستقوي بالعامل الخارجي. لهذا فإن انسحاب اميركي من العراق يجعل النظم المعنية تكف عن التدخل مباشرة او مواربة في توتير الاجواء في العراق، اذ سيبتعد عنها سيف التغيير وتعود لآلية الاصلاح من الداخل، وتستطيع ان تتمدد بمراحله، يساندها في ذلك شعب اتفق وبشكل غريب مع انظمته في لوم الولايات المتحدة وتحميلها والغرب وزر كل شيء، حتى بات ذاك جزءا من الثقافة السياسية العربية، لهذا نجد حتى في الفسحة الديمقراطية التي أتيحت، فإن الشعوب رفعت الى البرلمانات القوى الاعلى صوتاً في عدائها للاميركان، وليس تلك الواعدة والمؤهلة لتحقيق نهوض اقتصادي، او تلك الوسطية او المستنيرة.

اما الخوف من صراع نفوذ على العراق وفي مقدمتها الايراني، فإن ايران تشترك اولا مع باقي دول الجوار في رغبتها بعدم تقسيم العراق نتيجة الحرب، لكونها تماثله هشاشة مجتمعية، وثانياً خوفها من اي نزعات انفصالية يدشنها الكرد وستساند الاتراك في كبحهم، وثالثاً في ان مصلحتها بأن تكون هناك حكومة مركزية عراقية قوية، بالقدر الذي تحفظ وحدة البلاد دون ان تقوى لتهدد جوارها.

ومن هنا، فالمتوقع بانه عندما يشرع الاميركان بالانسحاب، فإن دول الاقليم ستتحول لتصبح جزءاً من الحل ومن دعم الاستقرار في العراق، لانها عندما تتخلص من الخطر الاعظم، فستتفرغ للاصغر وستعمل متضامنة للتصدي لظاهرة «العراقيين العرب» الذين سيستديرون لاستهداف الانظمة نفسها، فهل كانت هي جاهلة بذلك؟ كلا، لكنها اختارت اخف الضررين.

والى ذلك سيكون الانسحاب مطلوب أكثر في الداخل الاميركي، كونه يأتي مع الضغوط التي ستتزايد على الرئيس الاميركي مع اقتراب انتخابات نصف التجديد للكونغرس في نوفمبر، وخوف الاعضاء الجمهوريين من عدم اعادة الانتخاب او خسران الاكثرية، وانه ايضاً سيجعل الدول الاوروبية التي درجت على مشاكسة السياسة الاميركية، ايجابية بالتعاطي مع الشأن العراقي، بعد ان كانت ترى ان الولايات المتحدة لا تريد لأحد ان يشاركها القرار في العراق، معتبرين أن كل ما تريده واشنطن اقتسامه معهم هو الضحايا والنفقات.