عالم إريك بلير في كل مكان

TT

اراد اريك بلير ان يموت بعيدا عن كل شيء وعن جميع الناس. وكان مرض السل قد اخذ يفتك به، فاختار ان يلفظ دماءه بعيدا عن عيون الشامتين والمشفقين. وانتقى لنفسه منزلا متواضعا في اعماق اسكوتلندا، يبعد 25 ميلا عن اقرب بقال واقرب قرية، في تلك القرى المعلقة في البرد قرب الغيوم الخفيضة السوداء. وفي هذا المناخ من الكآبة وتلك الحالة من اليأس، اخذ اريك بلير يضع كتابه الاشهر: 1984.

كان ذلك في العام 1946. وكان اريك بلير حزينا على فقدان زوجته المتوفاة حديثا. وبدأ، تحت اسمه المستعار والاكثر ذيوعا، جورج اورويل، يرسم للعالم بعد عقود، صورة الخضوع المحزن «للشقيق الاكبر». ولم يكن ثمة شك في ان «الشقيق الاكبر» هو الاتحاد السوفياتي ونموذج الديكتاتور الذي سيملأ بلدان العالم هو جوزيف ستالين. وفيما يخضع ونستون سميث، بطل اورويل، لجلسة اخرى من جلسات التعذيب، يقال له «اذا اردت صورة للمستقبل، تخيل جزمة تدوس وجها آدميا.. الى الابد».

توفي اورويل العام 1950 في احد مستشفيات لندن وليس في جزيرته الموحشة. وترك العالم خوفه يرتعد من تخيلاته المرعبة. ولكن مع حلول العام 1984، كانت ثلاثة عقود قد مضت على وفاة ستالين. ولم يعد الاتحاد السوفياتي مرعبا كما كان، ومر الخوف من الانسحاق النووي بصعوبة ولكن في هدوء. وبعد اربع سنين، 1988، بدأ الاتحاد السوفياتي في الانهيار. وتساقط الديكتاتوريون على نحو مضحك، كما في بلغاريا، او على نحو مزعج ، كما في محاكمة تشاوشسكو وزوجته ثم رميهما في حظيرة خالية.

وفي اميركا اللاتينية غاب الديكتاتوريون الواحد بعد الآخر. وزالت في اوروبا الشرقية اجهزة القمع. واختفى من المانيا الشرقية الجلادون الذين كانوا يعذبون ونستون سميث. وتقاعد قائد «الستاسي» في برلين وانصرف الى تأليف كتب عن الطبخ في نيويورك، ينافس بذلك زوجة المستشار هلموت كول.

لم يكن اورويل يحاول ان يتنبأ مثل تخيلات نوسترادموس، الذي تناسب تكهناته العامة معظم الاحداث وغالب الامكنة. بل كان، على طريقة «كليلة ودمنة» يرسم العالم الحاضر. وقد فعل ذلك من قبل في كتابه «مزرعة الحيوان» حيث البس الحيوانات شخصيات تاريخية. ومع ذلك فإن «الشقيق الاكبر» حاضر في كل مكان. لم يعد من الضروري ان يكون سوفياتيا. ولا ان يكون نتاج الحرب الباردة. بل يمكن ان يكون حاضرا في مثل هذه الحرب غير المعلنة القائمة في كل مكان.