أين ذهب «العربيون» في واشنطن؟

TT

كان في بيروت هذا الاسبوع السناتور الاميركي السابق جيمس ابو رزق، ممثل ولاية ساوث داكوتا في مجلس الشيوخ واول اميركي من اصل عربي يدخل نادي المائة الاكثر تأثيراً في حياة الولايات المتحدة. وقد بدت آثار العمر الحتمية على الرجل، الذي عاد الى بلاد ابويه المرة الاولى العام 1970 وهو شاب بعد.

ومع انه كان دائماً ممتلئ الجسم، إلا انه هذه المرة غلبت عليه السمنة وانحسر شعر رأسه بوضوح. غير ان لهجة جيمس ابو رزق لم تتغير، ولا اندفاعه، ولا حماسه العربي الذي كان رائداً بين جميع الاميركيين ذوي الاصول العربية. فقد كانت آفاق المهاجرين والمتحدرين لا تتعدى القرى التي تركوها والاغاني الشعبية التي حفظوها. وكانت جمعياتهم ونشاطاتهم وخطبهم وصحفهم محصورة في الحنين العاطفي الى الارض الام. وكل هذا تغير مع جيمس ابو رزق، الذي رأى الاشياء والآفاق من مجلس الشيوخ وخاض معركة القضية الفلسطينية فوق اصعب حلبة سياسية. ومنذ هزم ابو رزق في الانتخابات وخرج من مجلس الشيوخ، دخل الى الكونغرس عدد كبير من ذوي الاصول اللبنانية، لكن احداً منهم لم يتبن القضية العربية كما تبناها، واكثريتهم تراعي الواقع الانتخابي وحقائق واشنطن.

* يغادر بيروت عائداً الى وزارة الخارجية في وقت قريب السفير الاميركي ديفيد ساترفيلد. وكان المستر ساترفيلد جزءاً من الحياة السياسية في لبنان لسنوات طويلة. وكان يظهر على شاشات التلفزيون على نحو تعاقبي شبه يومي، ليتحدث الى الصحافة وهو خارج من زيارة رسمية ما، وكان يلفت في المستر ساترفيلد انه يصغي الى اسئلة الصحافيين بالعربية ويجيب (بالانكليزية) على الفور، من دون الحاجة الى مترجم. اما في المجالس والحفلات الخاصة فكان يتحدث العربية بمعرفة.

غير ان ساترفيلد العارف بالعربية والعرب لا يمكن تصنيفه واحداً من ذلك الجيل الاميركي الذي عرف «بالمستعربين» او «العربيين» ARABISTS الذي كان يملأ وزارة الخارجية الاميركية منذ اوائل القرن الماضي وحتى جزء كبير من نصفه الاخير. «فالعربيون» لم يكونوا فقط مستعربين، ويجيدون اللغة ويعرفون المنطقة وتاريخها، بل كانوا يحبون المنطقة واهلها ويتفهمون قضاياها ويدافعون عنها، احياناً الى درجة الاصطدام او الاستقالة من مناصبهم.

وفي مفهوم هذا المصطلح يندرج جيمس ابو رزق بسيرته واندفاعه، ولكن لا يمكن اعتبار المستر ساترفيلد ومعرفته باللغة وشؤون السياسة كافياً لاضفاء التسمية عليه. «فالعربيون» في اميركا (وفي بريطانيا من قبل) صفة شبه تقنية، تتطلب الكثير من المواصفات والشروط، واهمها الموقف والمشاعر. وقد بلغ حضور «العربيين» في الخارجية الاميركية ذروتهم في الاربعينات، عندما حاولوا بكل الوسائل الاعتراض على تقسيم فلسطين واقامة اسرائيل. وفي سبتمبر (ايلول) 1947 كتب مدير دائرة الشرق الادنى وشؤون افريقيا وآسيا المستر لوي هندرسون الى وزير الدفاع جورج مارشال يقول له ان «تقسيم فلسطين واقامة دولة يهودية يتعارض عملياً مع موقف كل عامل في السلك الخارجي ومع موقف الدائرة التي تتعاطى في شؤون الشرق الأوسط والشرق الأدنى».

ويقول روبرت د. كابلان في كتابه «العربيون» ان المؤسسة السياسية في واشنطن لم تكن وحدها تعارض اسرائيل بل ايضاً جميع مستشاري الرئيس هاري ترومان ومن بينهم المعروفون بالحكماء: جورج مارشال، روبرت لوفيت، جورج كينان، تشارلز بوهلن، جيمس فورستال ودين اتشيسون. وكان يرى هؤلاء ان قيام الدولة اليهودية سوف يعيق تطوير العلاقة الاميركية مع العرب وخصوصاً مع الدول الغنية بالنفط، في مرحلة يزداد فيها الصراع مع الاتحاد السوفياتي. غير ان «الحكماء لم يتمسكوا بمواقفهم بالطريقة التي صمد بها لوي هندرسون ورفاقه في وزارة الخارجية. فعندما اصر ترومان على الاعتراف باسرائيل سحب الحكماء اعتراضهم «ووقفوا خلف الرئيس» فيما استمر هندرسون ورفاقه يعترضون «لدرجة ان احد الديبلوماسيين الملحقين بالامم المتحدة هتف عندما سمع بالاعتراف: غير معقول». وقارن ديبلوماسي آخر، فيليب ايرلاند، الذي كان استاذاً سابقاً في الجامعة الاميركية في بيروت، بين «الصهيونية والنازية». وظل هندرسون ورفاقه بعد الاعتراف يسعون الى حجب الاسلحة عن اسرائيل في العام 1948. ويتذكر باركر هارت الذي اصبح في ما بعد وكيلا مساعداً في الخارجية لشؤون الشرق الادنى ان «خبراء المنطقة استفظعوا ما حدث عام 1948. فقد وضعنا جميع الاسس لاقامة علاقة طيبة مع العرب وفجأة سقطت احلامنا كلها». ويقول الديبلوماسي الآخر كارلتون كون: «لقد افسدت اسرائيل كل شيء».

يقول ترومان في مذكراته عن تلك المرحلة «لقد كان خبراء وزارة الخارجية في شؤون الشرق الادنى بدون استثناء تقريباً معادين لفكرة الدولة اليهودية... وبعضهم اعتقد انه يجب استرضاء العرب بسبب عددهم وبسبب ثرواتهم النفطية... بل ان بعض هؤلاء (الموظفين) كان معادياً للسامية».

كان العرش المغربي اول حكم اجنبي يعلن الاعتراف الرسمي بالولايات المتحدة بعد الثورة الاميركية.

وفي عام 1826 كان وليم هودجسن اول موظف في الخارجية يدرس العربية لكن حتى الحرب العالمية الثانية ظل الوجود الديبلوماسي الاميركي ضئيلاً في العالم العربي.

ما بدأ مع وليم هودجسن تطور الى اجيال كثيرة من «العربيين». «حتى الحرب العالمية الثانية كانت اميركا تترك امور الشرق الأوسط طوعاً لحليفتها بريطانيا، لكن الاشياء تغيرت وتسارعت. وظلت الخارجية معقل «العربيين» ورؤيتهم السياسية فيما بقي البيت الابيض تقليدياً ـ وكذلك الشيوخ ـ يتأثر بمعطيات السياسة الداخلية التي تأثر بها ترومان، ولم يعد «العربيون» يدرسون اللغة في واشنطن فحسب بل اصبحوا يولدون في الشرق من آباء اميركيين ويتعلمون ثم يدرسون في الجامعة الاميركية في بيروت (او القاهرة) التي كان رئيسها دودج يصر على تحذير البيت الابيض من «تأييد الحركة الصهيونية».

اين ذهب هؤلاء جميعاً؟ اين ذهب السفراء الذين كانوا يدركون ان خدمة بلادهم الحقيقية تكمن في الدفاع عن الرؤية العربية والحقوق العربية؟ واين ذهب اولئك العرب الذين كانوا يقيمون الصداقات مع اهل هذا الرعيل ويحملونهم مشاعرهم وهمومهم ورؤيتهم لنوعية العلاقة التي يجب ان تقوم بين بلدانهم وبلداننا؟ وماذا حدث للمثقفين العرب والاميركيين الذين كانوا ينشئون تبادلاً اقوى واعمق من شهوات السياسة الاميركية وخضوعها الطوعي لاملاءات المصالح الاسرائيلية؟

ان السفراء «العربيين» اليوم يتحدثون العربية بطلاقة لكنهم لا يتعاطفون معها. وواشنطن مهجورة من ذلك الجيل الاميركي الذي عرف كيف يثقف حكومته ودولته بالاضافة الى مئات الطلاب في برنستون وسواها من كبرى الجامعات. وكلما ازداد عدد العرب في اميركا قل نفوذهم وتأثيرهم الثقافي. والاتجاه او التركيز على نشاط سياسي مجرد لا يؤدي الغرض المثالي ولا يعيد ذلك الجيل المتعاطف الذي ظل له صوته في الخارجية الى سنوات قليلة مضت. انها مرحلة انتهت من تلقاء نفسها مع سنوات بوش الاب. ولفظت انفاسها مع بيل كلينتون الذي محا كل جهوده للعثور على حل بعملية استرضاء للاسرائيليين وآخرهم شارون في اتصال هاتفي مضحك، لكي لا نقول مذلا.