العالم الثالث وهجرة العقول

TT

لا تكفي العالم الثالث المجاعات والكوارث الطبيعية والحروب الأهلية والقبلية التي تعاني منها بلدانه، والمظالم المسلطة على شعوبه من قبل حكامه المستبدين، بل تنضاف الى كل هذا مصيبة اخرى، أعني بذلك هجرة عقوله الى الغرب، تاركة اياه عاريا امام مخاطر المستقبل. وتقول تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الخاصة بالتنمية ان هجرة العقول باتت مسألة جد شائكة في العلاقات القائمة بين الشمال والجنوب، ويشير احد هذه التقارير الى ان «الاستثمارات التي يوظفها بلد من البلدان في المجالات التربوية لا تساعده بالضرورة على تحقيق التنمية الاقتصادية التي يطمح اليها اذا ما اختار قسم من ابنائه الأكثر تكوينا العمل في الخارج».

ومن المؤكد ان الأوضاع السياسية حافز اساسي لهجرة العقول هذه التي باتت تمثل نزيفا خطيرا لاغلب بلدان العالم الثالث، فانعدام الديمقراطية، ومصادرة الرأي الاخر، وانعدام حرية الصحافة، وتزييف الانتخابات، واجهزة الرقابة، كل هذه العوامل تدفع باعداد هائلة من المتعلمين ومن المهندسين والاطباء وذوي الاختصاص العلمي والتكنولوجي الى ترك بلدانهم الاصلية مخيرين حياة الاغتراب على حياة العزلة والمهانة. اما العامل الثاني فهو الانعدام شبه المطلق للبنى التحتية وللمؤسسات والمختبرات التي تساعد على العمل في ظروف اقل ما يقال فيها انها معقولة. ان دول العالم الثالث تصرف مبالغ طائلة في شراء الاسلحة، وفي بناء القصور لزعمائها، وتبذر مثلها في الاحتفالات والمواكب التي لا هدف لها سوى ارضاء اصحاب النفوذ والسلطة فيها، غير انها تصبح جد بخيلة عندما يتعلق الأمر ببناء المؤسسات التي تساعدها على تحقيق التنمية، وتحسين اقتصاد البلاد، والتحديد من نسبة البطالة، ومن نسبة التوريد، وكل ما يجعلها قادرة على درء مخاطر الاهتزازات والرجات العنيفة، وابعاد شبح الحروب الاهلية المدمرة التي عادة ما يكون انتقام الفقراء من الاغنياء احد اسبابها.

وتستفيد البلدان المتقدمة استفادة هائلة من هجرة العقول هذه. وبسبب تفوقها الكبير في مجال تكوين النخب، تحتل الولايات المتحدة الصدارة على هذا الصعيد، مقدمة عقولا في المجالات العلمية والتقنية خصوصا من بلدان اميركا اللاتينية، ومن آسيا، وافريقيا. وتستقبل الولايات المتحدة الاميركية كل عام ما يعادل نصف مليون طالب اجنبي أي اكثر من بريطانيا وفرنسا مجتمعتين. وهناك نسبة عالية من هؤلاء الطلاب تفضل البقاء في الولايات المتحدة الاميركية للعمل فيها، حارمة بذلك بلدانها الاصلية من الاستفادة منها، وتقول التقارير الدولية ان جزءا مهما من قطاع التقنيات العالية في مجالات متعددة يقوم بتسييره والاشراف عليه مهندسون وعلماء قادمون من بلدان العالم الثالث. وخلال عام 2000 فتحت المانيا بابها واسعاً أمام هجرة العقول في المجال التكنولوجي والمعلوماتي بالخصوص، مقدمة تسهيلات مذهلة، الشيء الذي ساعدها على جلب ما يفوق عشرة آلاف مختص جميعهم من العالم الثالث تقريبا، وخلال السنوات الاخيرة دأبت الشركات الغربية الكبرى مثل «ميكروسوفت» على التوجه مباشرة الى الجماعات في البلدان المغاربية، المغرب وتونس بالخصوص للبحث عن ذوي الاختصاص الطامحين للهجرة. وقد رضخ لاغراءاتها حوالي 20%. ولا تزال هذه النسبة في ارتفاع متواصل.

وفي حين توفر الدول المتقدمة كل التسهيلات والامكانيات لاغواء اصحاب الخبرات وأهل الاختصاص للعمل فيها، والاستفادة منها، تبذل اغلب دول العالم الثالث كل الجهود الممكنة وغير الممكنة لطردهم بعيداً كما لو انهم مصابون بالطاعون!