الزعماء الشباب: الانسلاخ نحو مستقبل واعد

TT

ليس من جديد في القول ان الكثيرين لم يعولوا كثيرا على قرارات القمة الاخيرة التي عقدت بالاردن، ولم يعطوا بالا للبيان الختامي، ويبدو انها تراكمات تراكمت مع المحصلات النهائية للقمم العربية التي اعتادت في الاقتراب من الصفرية، آخذين في الاعتبار ـ بالطبع ـ العدد المهول لبيانات الشجب والاستنكار، التي لم تلبث ان تصبح بصمة ملحوظة في الخطاب السياسي السائد.

ولعل حالة عدم الاكتراث هذه، تعود الى النمطية المعتادة التي تنفرد بها القمم العربية، الا ان هذا لا يقلل من اهمية الحدث في كونه لقاء اعتياديا تم الترتيب والتنسيق له منذ فترة، وهو ما تكمن فيه قيمة الحدث بغض النظر عما آلت اليه القمة من نتائج وتوصيات.

ولعل المراقب الذي اعتاد على سبر غور العقلية العربية السياسية ومجاهلها، يجد في مسألة الالتزام بالموعد والحضور والمشاركة اسلوبا جديدا لم يستطرق من قبل، ولذلك يمكن القول ان ثمة تحولا في هذه العقلية التي رأت ان التعاطي مع الاحداث يتطلب دورا فاعلا يستند الى الفعل، وبالتالي التفاعل والاثراء او ابداء النية لذلك المنحى على اقل تقدير.

اما مسألة التوافق التام بين اعضاء المجلس، وتطابق الآراء فإن ما يلوح في الافق يشير الى ان اللحظة لم تأت بعد، ولكنها في الطريق الى الاتيان، طالما توفرت الرغبة الجادة لمثل هذه الطروحات، ولعل الاجتماع الدوري العادي يكرس مفهوما كهذا، لا سيما ان المعطيات تنطلق من ارضية خصبة تهيئ للجميع المساحة الممكنة في مناخ حي وصحي يؤمن بالرأي والرأي الآخر.

صحيح ان العقلية العربية السياسية تستند الى التضاد والتناقض في آن، الا ان محاولة تغيير ذلك، يعد نقلة نوعية في آلية التفكير ذاتها. وعلى اي حال فالمؤشرات تدعو الى التفاؤل. فالتوجه العام يعكس آمالاً يمكن تحقيقها على ارض الواقع.

وهذا التفاؤل يعود الى وجود عقليات تؤمن بالتغيير ومواكبة العصر. وربما كانت متابعتي للحدث تختلف الى حد ما عن اي شخص آخر، حيث انني حاولت قدر ما استطيع متابعة الزعماء الشباب وتحليل رؤيتهم للراهن وللقادم ووجدت ان من حقي وغيري التفاؤل، طالما ان هنالك منهجية في التفكير وتورعاً في اتخاذ القرار.

وهنا استحضر ما قاله الملك عبد الله الثاني الى شبكة CNN قبل اشهر حيث تحدث قائلا: كما حدث في البحرين والمغرب وسورية، فإننا نسعى لادخال بلداننا في الاقتصاد العالمي، واعتقد ان بلداننا كلها آخذة بتبني الانفتاح، وبتفهم التحرك العالمي ولذا امامنا (القادة الشباب) فرصة ذهبية حاليا لتغيير ما هو قائم، وان نكون رمزا لما ستصبح عليه الامور في هذا الجزء من العالم المشترك.

ان حديث العاهل الاردني، يكشف ان عصر العولمة والانترنت والفضائيات، بات يفرض على الجميع (حكاماً وشعوباً) الخروج من شرنقة (التقليدي) الى فضاء (الانفتاح) ويكرس ايضا توق الشعوب والاجيال الجديدة الى تحقيق الامنيات والاحلام التي تتمثل في وجود مفاهيم حقيقية وواضحة لمعنى المؤسسات، من مشاركة سياسية عبر احزاب حقيقية، وعبر صحافة حرة لا تعرف الرقيب ولا السجون، وكذلك وجود سلطة تشريعية غير متملقة تكون منتخبة، وليست بالتعيين والتزكية. والاهم من كل ذلك حماية حقوق الانسان بكل مفاهيمها المتعددة وهو ما يتطلب عقلنة السياسة، بمعنى ان ترتهن الى العقل والمنطق والتحليل المعرفي، مما يحقق في نهاية المطاف المبادئ الانسانية من مساواة وعدالة وحرية والخروج من مركزية السلطة ومحورية السياسة التي لا تزال تعتنق مفاهيم القبيلة والطائفة الاجتماعية، كما يجب ان نحوز على الشجاعة الادبية في نقد ومواجهة التابو، فضلا عن «المسكوت عنه» وغير المفكر فيه وطالما تمكنا من الغاء السلطوية، بالاضافة الى مؤثرات اخرى (كالعادات والاعراف القديمة) ناهيك من تسييس الدين وما يؤدي ذلك الى مآس وكوارث لا يعلمها الا الخالق عز وجل، فإنه يمكن القول ان اصلاح المجتمع في بنيته التركيبية ممكن، منظورا اليه اجتماعيا وثقافيا، وهذا ما يفسر بأن ثمة تغيرا قادما للخطاب السياسي العربي، يستند فيه الى مفاهيم التعايش والتعددية وحقوق الانسان، وهو ما يحقق النهضة والتنوير والتنمية والابداع وهذا ما يفترض ان يتضمنه الخطاب السياسي العربي في القادم من الايام، استنادا الى تأويلنا لمفهوم هذا الخطاب ـ او قل ـ قراءة خاصة له، لا سيما ونحن نتعامل مع عقلية لزعماء شباب، يقودون دولا عربية ذات مواقع استراتيجية، وابعاد سياسية مؤثرة على الساحة السياسية الدولية.

ولعل من تابع قمة عمان الاخيرة، يلحظ الى حد كبير مدى التحول في نوعية الخطاب السياسي العربي لدى هؤلاء الزعماء الشباب، فخطاب الملك عبد الله او الرئيس بشار الأسد او الشيخ حمد (أمير البحرين). يرتكز الى لغة جديدة ترنو الى المستقبل، وتحاول قدر استطاعتها المواءمة بين جيل الحكام الكبار وما يتبع هذا من مفاهيم وتوازنات، وبين نظرتها الحية الشابة الى الاشياء من منظور عولمي متغير ومتجدد، هذا اذا تحدثنا عن الشأن الدولي والعربي، اما الشأن الداخلي لبلدانهم فهذه قضية اخرى مهمة.

ان هؤلاء الزعماء (القادة الشباب) يواجهون تحديا رهيبا يتمثل ـ حسب ما أرى ـ في عملية التوازن بين ما كان (عهد ابائهم التقليدي) وبين ما يفترض ان يكون (طموحاتهم وطموحات شعوبهم في التغيير) ولذلك لا يستطيعون ان يلغوا التاريخ او يمحوه (الغاء ما انجزه اباؤهم) لان في هذا الغاء لشرعيتهم، لكن في الوقت نفسه لا يقتضي ذلك (ما فعله اباؤهم) بالضرورة ان يتوافق مع تطلعاتهم ورغباتهم وهم الشباب المؤهل الذي درس بالخارج وانفتح على حضارات متعددة، بل حتى انه يجيد لغات اجنبية متعددة، ومارس مواهب متعددة، هم يعتقدون ان العصر قد تغير، وان التجاوب مع المتغيرات بات امرا لا رجعة فيه، والحقيقة هم بذلك ينظرون الى المستقبل البعيد، ويقرأون ما يمكن التنبؤ به، فالاستقرار والشرعية والديمقراطية لا تتحقق بشكل دائم، الا بقدرة ثابتة وبعزيمة الرجال الخالدين. على ان محاولتهم في حفظ تاريخ و(إرث) ابائهم الزعماء، لا يجب ان يمنعهم دون التطلع والمضي قدما في تحقيق رغبات شعوبهم.

نعم.. لقد اعتادت شعوبنا على (النظام الابوي وتقديس الزعيم) واصبحت تشعر بالضياع وبالالم وبـ (اللاوجود) حينما يتبادر الى سمعها فقدان زعيم او رحيل ملك، لانها بمرور الوقت استقر في ذهنها ان التاريخ لا يقف الا عند هذا الشخص (الزعيم) وان رزقها ومعاشها لا يأتي الا في وجود هذا الانسان (الزعيم)، وهذه للاسف فلسفة كرستها معظم الانظمة العربية لتخليد زعمائها دون التفكير في حق الشعوب والمجهول الذي ينتظر الاجيال القادمة بعد رحيلها.

ان المواطن العربي ما زال يعاني من علل كثيرة، فبيئته الثقافية ومناخه العام يجعلانه يفقد الثقة بنفسه وبـ «الآخر» وبالتالي يفتقد لروح المبادرة، وعدم القدرة على التفكير فضلا عن عدم الانتاجية، ناهيك بحالة الاكتئاب والاحباط اللتين لا تفارقانه.

ان هذه الشعوب تعاني من الفقر والتخلف والاضطهاد، وتفتقر عمليا الى معنى السيادة والمواطنة الحقة! وتعاني من غياب الديمقراطية الحقيقية، ومن غياب ضمانات حقوق الانسان، وهامشية دور المفكرين والمثقفين.

ان الآمال تعانق افئدة الشعوب، وهي معلقة على تلك الروح المشرقة والعقلية المنفتحة المبثوثة من الزعماء الشباب (قادة عصر الانترنت) الذين يحملون تطلعات جيلهم والاجيال القادمة، وهم الوحيدون القادرون على نقل هذه الشعوب من مرحلة (السلطة الابوية) الى مرحلة (المأسسة) ودمقرطة الشعوب ضمن دستور جديد يراعي حقوق الانسان ويفتح الباب للمواطن العربي في المشاركة السياسية الفاعلة (وليست ذات الشعارات الرنانة).

على ان المسميات لا تمثل عقبة هنا، سواء كانت ديمقراطية، او لجان شعبية او شورى، او خلاف ذلك.. فالمناط يرتبط بالآلية والمفاهيم التي تستند إليها تلك المسميات.. وكان محقا ونستون تشرشل حينما قال: «ان الديمقراطية ليست نظاما جيدا للحكم، ولكن الانظمة الاخرى اسوأ بكثير» وهنا تكمن مرحلة التحدي حيث التغيير.. وعلى قدر اهل العزم ـ كما قال الشاعر ـ تأتي العزائم.