عقدة الأزمة: (غياب العقل).. وحلها (حضوره) المقنن في وثيقة دولية

TT

في كل ازمة تحيق بقوم معينين، او بسائر البشر: نعطي الفكر فرصته الحرة الفسيحة في التأمل في تفكير الناس في تلك الازمة.. اولا: لان (الفكر) هو شغلنا، ومناط اهتمامنا.. ثانيا: لان الازمات انما تنشأ ـ ابتداء ـ وتتعقد مسارا ونتيجة من (التفكير الخاطئ). فما من كارثة اصابت البشرية السالفة او المعاصر إلا كان سببها الاعمق الاعظم هو (غياب العقل) وسوء التفكير وعقمه وتحجره وبلادته، سواء اخذت هذه الكوارث صورة الاضطرابات في وقت السلم، او اصطبغت بلون الدم في أزمنة الحروب.. ثالثا: ان الازمات ينبغي ان تكون مدخلا موضوعيا، ومناسبة زمنية، لما هو ابعد منها وهو: استكشاف المفاهيم الصحيحة التي تعصم من مثلها في المستقبل، فان تكرار الوقوع في الازمات لا يدل على عقل رشيد، ولا على تفكير سديد، ولا على قدرة على الاعتبار الواجب بتجربة التاريخ والواقع.

فكيف فكر الناس في ازمة الرسوم المستهزئة بنبي الاسلام في الدانمارك التي كانت مصدر الازمة ومفجرها؟

من التفكير الخاطئ: تصور ان الناس سواء في التفكير في هذه الازمة، ذلك انهم ـ في الحقيقة ـ ليسوا سواء. فمنهم من انحرف تفكيره.. ومنهم من اجتهد ففكر فيها بطريقة معتدلة متوازنة:

1 ـ نماذج من التفكير الخاطئ:

أ ـ اول نموذج هو تفكير رئيس الوزراء الكندي في الازمة. فبالمقاييس الدبلوماسية والسياسية والعقلانية والمصحلية: يتسم موقف الرجل بالغرابة والشذوذ الشديدين.. فماذا وراء هذا الموقف؟.. هل هو (الدافع الايديولوجي العنصري)؟.. ربما.. وهذا الدافع نفسه غير عقلاني. فما سيطر هذا الدافع على تفكير احد إلا تناقصت مقادير العقلانية لديه.. هل هو فشل في وزن القضية وتقديرها (الفعل وردود الفعل).. ربما.. وهذا الفشل دليل على خطأ في الحساب. وهو خطأ علته (ضمور) العقل، وهزال التفكير، فدقة الحساب تتأتى نتيجة لتفكير صحيح، في المقدمات والنتائج.. هل هو (التحجر السياسي)؟.. لنفترض: ان السبب الاخير هو الاساس عنده بقرينة ان الرجل يجمد على موقف واحد جمودا عجيبا حيث يردد عبارة واحدة وهي (حرية التعبير).. وهو موقف غير عقلاني بلا ريب ببرهان ان المسيح عليه السلام قد قال: «جعل السبت من اجل الانسان ولم يجعل الانسان من اجل السبت» والمفهوم العقلاني في هذه الآية الانجيلية هو: ان كل شيء ينبغي ان يكون من اجل الانسان بما في ذلك الدين نفسه.. وبناء على هذا يقال ـ بثقة ـ: ان حرية التعبير جُعلت من اجل الانسان، ولم يُجعل الانسان من اجل حرية التعبير. وفي ضوء هذا لا يمكن ولا ينبغي ان تكون هذه الحرية ذريعة لإهانة الانسان، ولا سيما اذا كان هذا الانسان ممن اختارهم الله لتلقي وحيه والتبشير بكلمته في اعتقاد امة من الناس هم مسلمو العالم.. هذه واحدة.. والاخرى: ان (التعبير) ـ عند العقلاء ـ ليس مجرد شهوة كلام، ولا مجرد تنفيس عن هوى جامح مطلق او عن غيظ كظيم، بل التعبير يتعين ان يرتبط بـ(العقل) و(المصلحة).. بيد ان العقل والمصلحة قد اهدرا او نُحِّيا من موقف رئيس الوزراء الدانماركي بدليل الخسائر المعنوية التي لحقت بالعالم الاسلامي، والخسائر المعنوية والمادية التي حاقت بالدانمارك نفسها، اذ شاهدت صورتها في العالم الاسلامي، وتضرر اقتصادها بالمقاطعة.. اما الثالثة فهي قول الرجل: «ان المتطرفين في العالم الاسلامي يصبون الزيت على النار».. والسؤال العقلاني الذي تتبخر هذه المقولة في حرارة منطقه هو: ومن اوقد النار ابتداء؟ ولماذا لم تسارع انت الى اطفائها قبل ان تمتد ألسنتها الى خارج الدانمارك؟.. واما الرابعة فهي: ان الرجل نسف او كاد ينسف جسور التفاهم بين الغرب والعالم الاسلامي، وهي الجهود التي كدح عقلاء من الجانبين في اقامتها على مدى عقود، ولا يمكن ان يحمد هذا السلوك ويوصف بأنه (عقلاني).. ثم يأتي قوم آخرون فيعلنون (تضامنهم) مع رئيس وزراء الدانمارك!! وهو تضامن لا يقوم على قاعدة عقلية قط من جهة انه تشجيع على ارتكاب الاخطاء المهلكة، أي على المواقف السلبية الضارة التي ذكرت آنفا.

ب ـ النموذج الثاني من التفكير الخاطئ: قول قائل منهم: ان سوريا وايران وراء هذه الاحتجاجات الواسعة في العالم الاسلامي، وان المتطرفين هم المستفيدون من هذا المناخ.. ما البرهان على التفكير الخاطئ في هذه المقولات؟.. البرهان هو: بناء المقولة على معلومة خاطئة، فليس صحيحا ـ قط ـ ان سوريا وايران حركتا العالم الاسلامي، بل الذي حركه هو: الاساءة طويلة المدى التي تعرض لها نبيهم في الدانمارك.. والبرهان هو: ان التعليل بسوريا وايران: (تضخيم) لحجم الدولتين ووزنهما في العالم الاسلامي، ومع اجتناب الحط من قدر الدولتين، فلا نحسب ان هذا التضخيم منبثق من حساب عقلي جيد، وإلا لتردد الغرب الف مرة في ممارسة موقفه الراهن من سوريا وايران.. والبرهان على تهافت تلك المقولات: توجيه الاساءة لملايين المسلمين الطيبين المسالمين وكسب عداوتهم ـ بحسبانهم مجرد ادوات في يد هذا او ذاك ـ .. ولا يهرول احد الى كسب عداوة الناس الا وهو فاقد العقل، او سيئ التفكير.

ج ـ النموذج الثالث من التفكير الخاطئ في الازمة هو: ان احد زعماء حزب عصبة الشمال الايطالي، والوزير في حكومة برلسكوني، وهو روبير كالديروني، دشن حملة عقدية وسياسية واعلامية ضد الاسلام والمسلمين، وطالب من خلالها بابا الفاتيكان بتبني (حرب صليبية جديدة) تتيح استخدام القوة ضد العالم الاسلامي.. وهذا تفكير معوج من ألفه الى يائه.. فلو قدرنا ان حجم الازمة هو طن ـ مثلا ـ فان تفكير هذا الرجل المتعصب يريدها ترليون طن.. وهذا جنون، اذ من شأن العقلاء: خفض التوترات، واطفاء الحرائق، لا زيادتها وتوسيع نطاقها.. ثم ان هذا الكلام يزود (الارهابيين) بما لم يحلموا به من شحنات التأجيج وعوامل التجنيد وشدة البطش.. وهذا جنون ايضا.

2 ـ نماذج من التفكير الصحيح..

«كل ما يمكن ان يؤذي معتقدات الآخرين، خصوصا المعتقدات الدينية، يجب تفاديه. واني ادين كل الاستفزازات الواضحة التي من شأنها تأجيج المشاعر بصورة خطرة».. الرئيس الفرنسي جاك شيراك.

«ليس هناك حقوق بدون واجبات والتزامات. ولذا فان هذه الرسوم المسيئة مرفوضة من وجهة نظر اخلاقية وسياسية».. خوسيه ثاباتيرو رئيس وزراء اسبانيا بالاشتراك مع طيب اردوغان رئيس وزراء تركيا..

«لا يجوز اهانة الاديان ولا جرح مشاعر اتباعها وحرية التعبير ينبغي ان تلتزم بالمسؤولية».. بابا الفاتيكان..

«ان اسلوب رئيس وزراء بلادي في التعامل مع قضية الرسومات اسلوب سيئ منذ البداية حين رفض التفاهم مع سفراء دول عربية واسلامية. ويجب ان نعتذر عن نشر هذه الرسومات ولا نكابر».. فيلي سوندال زعيم حزب الشعب الاشتراكي الدانماركي المعارض..

«ان الاستهزاء بمقدسات المسلمين وجرح مشاعرهم عمل ننكره وندينه ويجب على الفاعلين الاعتذار الصريح وطلب الصفح»: الرئيس الروسي بوتين..

«سنقوم باعتذار صريح للمسلمين والتوكيد على احترام مقدساتهم وفتح حوارات جديدة مع العالم العربي والاسلامي من خلال جولات مباشرة في بلادهم».. مجموعة من رجال الاعمال والدبلوماسيين الدانماركيين.

وإذ ننتقد التفكير الخاطئ وننقضه، نهش ـ في الوقت نفسه ـ للتفكير السليم الايجابي ونحتفي به.. بيد ان هذا التفكير البناء يمكن ان يكبت بعلو صوت الغلاة: فاقدي الاهلية العقلية، مسعِّري الحروب والصراعات، كما يمكن ان يتراجع هذا التفكير البناء بسبب (الكسل الحضاري) في صياغته في (وثيقة عالمية) تكفل (السلام العقدي والثقافي) بين الامم في الآماد: القريبة والبعيدة.. وفي غيبة هذه الوثيقة وانعقاد الاجماع الدولي عليها: ستتفجر (حروب دينية) تشقي الانسانية ايما شقوة، وهي حروب تفسد مفهوم الدين الحق. فما جاء الانبياء والرسل ـ ومنهم موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم جميعا وسلم ـ إلا لتبشير بالسلام، ونثر عطره في حياة الناس.

نص الوثيقة المقترحة:

لما كان (الوجود المعنوي) للأمم يرتكز على معتقداتها واوصولها ومواريثها الثقافية، وبما ان عبرة التاريخ البشري تؤكد ان التوترات والتهييجات الدينية كانت (خميرة) الصراعات الدامية في اغلب الاحيان.. ولما كان لـ (الكلمة) دور سلبي مدمر في (التحريش) بين الامم، ولما كانت (الرغبة) وحدها لا تكفي في بناء علاقات جيدة ومتينة ومترقية باستمرار بين الشعوب والدول والحضارات، بل لا بد من (دليل عمل) يحول الرغبة الى فعل وسلوك وموقف.. لهذه الاسباب مجتمعة : قررت الدول الاعضاء في الامم المتحدة اصدار الوثيقة الجماعية التالية التي تصون (السلم العقدي والثقافي والحضاري) بين امم الارض كافة:

1 ـ تفعيل عهد الشرف الدولي للصحفيين، وتجديد التزام صحفيي العالم بمضامينه ولا سيما المضمون الآتي: «ان الافتراء والتشهير المتعمد والتهم التي لا تستند الى دليل، كل ذلك يعد مخالفات وسقطات مهنية خطيرة. ويجب ان يكون احترام سمعة الناس قاعدة من قواعد المهنة الصحفية».

2 ـ الدول الموقعة على هذه الوثيقة ملزمة ـ قانونيا واخلاقيا ـ بجعل الإعلام (اداة تفاهم) بين الامم، لا اداة صراع وتحقير متبادل، على ان يُعتبر هذا البند مقياسا للنجاح الصحفي والاعلامي في كل دولة، ومعيارا للجوائز الصحفية المتنوعة، سواء كانت على المستوى الوطني او الاقليمي او العالمي.

3 ـ تعزيز الروابط الموضوعية والمهنية بين حرية التعبير وبين المسؤولية القانونية والاخلاقية في ممارستها، وذلك من خلال سن قوانين واضحة تصون حرية التعبير، وتصون معتقدات الامم ورموزها الدينية العليا في الوقت نفسه.

4 ـ ان انبياء الله ورسله هم ـ جميعا ـ قادة البشرية وروادها العظام الى الحق والنور والخير والجمال والسلام، فلا يجوز لأحد: النيل من مكانتهم وجلالهم بأي وسيلة من وسائل النشر والتعبير.

5 ـ حماية الاديان من القذف والتشهير والاهانة.. والكف المتبادل عن سب آلهة الامم.

6 ـ الامتناع المتعمد والدائم عن السخرية المتبادلة بالشعوب.

وتمام المقال: اقتراح اضافي وهو: ان الامم المتحدة حددت اوائل الشهر الخامس من كل عام ميلادي ليكون (اليوم العالمي للصحافة) فليكن شعار يوم هذا العام (2006) هو: (اليوم العالمي لأخلاقيات الصحافة ومسؤولياتها).