حكومة حماس .. وفسيفساء المشهد الفلسطيني

TT

الوضع الطبيعي ان يكلف الرئيس محمود عباس احد قادة حماس بتشكيل الحكومة الأولى بعد تنصيب المجلس التشريعي الثاني. وقبل ان يبادر عباس الى التكليف لا بد ان يكون قد استقبل وفدا من حركة حماس، وحصل منه على اسم المرشح لتشكيل الحكومة كي يقوم بتكليفه، وهنا قد يكون المرشح من صلب حركة حماس ومن قادتها المباشرين، او ربما يكون مستقلا ترضى عنه حماس، وتثق بقدرته على قيادة الحكومة وفق برامجها وتوجهاتها.

يبدو من المواقف الاولية لأقطاب اللعبة بصورتها الجديدة، وهي فتح وحماس، ان القطبين الكبيرين لم يكونا جاهزين للتعاطي مع الواقع الجديد، رغم قدرة اللغة العربية على وضع حلول لكل معضلة، بما في ذلك المستحيل منها.

فلا حماس جاهزة تماما لقيادة السلطة بكل إرثها الثقيل والتزاماتها المخيفة.. سياسيا وامنيا وحتى نفسيا.. ولا فتح جاهزة للعب دور المعارض، بالمعنى الحقيقي لكلمة المعارض.

فالأمر بالنسبة للقطبين ليس مجرد اعلان مواقف واظهار استعدادات وقدرات وانما هو بالضبط مسألة حسابات فيها من الحقائق والارقام اكثر بكثير مما فيها من الامنيات والتطلعات.

عند استكمال الاجراءات بشأن التشكيل، وحين يمنح المجلس التشريعي الثقة لحكومة حماس مهما كان اسمها وتكوينها.. سوف تبدأ العمل التنفيذي على الفور، وسوف تكتشف بالمعلومات، وليس بمجرد التقديرات، ان حجم العبء المالي الذي ورثته حكومة حماس هو اكبر بكثير من التبسيط الذي نسمعه عبر الطروحات الاعلامية، والامر هنا يحتاج الى دراسة تخصصية لميزانية السلطة، ومعرفة الايرادات الحقيقية، والنفقات الفعلية، ودون تهوين او تهويل للفساد او الخلل في الإنفاق، ينبغي دراسة الامر بالارقام لنكتشف حقيقة مرعبة ليس لحكومة حماس وانما هي كذلك لمحمود عباس وابو علاء وسلام فياض.. وهي تجاوز الصرف على المرتبات فقط حدود المعقول دوليا.

فإن قامت الحكومة الجديدة بالاستغناء عن آلاف الموظفين الذين هم فعلا يشكلون نوعا من البطالة المقنعة، فساعتئذ ستزداد نسبة البطالة الصريحة على نحو يحتاج الى حل جذري، للمشكلة برمتها.. وهنا ليس بمقدور اي حكومة ومهما حصلت على دعم خارجي، ان تحل مشكلة البطالة على المدى المنظور، حتى لو كانت الموازنة العامة نموذجية وكان الجهاز التنفيذي خاليا من اي فساد او تجاوزات.

على حماس ان تقرأ الوضع جيدا، وان تكلف خبراء من جهازها، او من اي جهة اخرى، دراسة الوضع واقتراح الحلول بدون الإسراف مسبقا بالوعود واعتبار مجرد اصلاح خلل ما هو الحل الحاسم لمعضلة يعاني منها المجتمع الفلسطيني وكل مجتمعات العالم الثالث.

ان معالجة العجز في الموازنة وتوفير مقومات استقرار اقتصادي في مجتمع مضطرب مثل المجتمع الفلسطيني، يتطلبان حلولا علمية وعملية، مع اهمية الدراسة المسبقة لردود الافعال على اي اجراء ووضع احتمالات متعددة وحلول متعددة كذلك.

وفي الشأن الامني لا أحد يعرف على وجه الدقة كيف ستدخل حماس على معادلة الاجهزة المتعددة، والتجذر الفتحاوي فيها جميعا، وهي معادلة اتعبت فتح حتى في زمن صانع المعادلة ياسر عرفات، رحمه الله.

ان للعالم شروطا على هذا الصعيد، وهي شروط تبدو في ظاهرها غاية في الموضوعية والنزاهة، وفي باطنها غاية في اللؤم والرهان على الفشل..

وحين تعامل العالم بهذا المضمون مع فتح، المعترفة بإسرائيل، ووضع شروطا دقيقة تبدو بمجملها تعجيزية ومستحيلة التحقيق، فإن ذات المنهج سيطبق في التعامل مع حكومة حماس ذلك ان المعادلة التي جرى التقيد بها خلال السنوات الماضية وضعت القوى الدولية المعنية بالوضع هنا، ويمكن اختصارها باللجنة الرباعية، في موضع من يشترط ويمتحن ويضع النتائج، ولا أرى، وآمل ان اكون مخطئا في التقدير، ما سيحمل هذه القوى على تغيير معادلتها في التعامل، نحو الافضل، وارجح ان يكون نحو الاسوأ.

ان العالم يضع مسألة الأمن كأمر مفصلي، أولا من اجل اسرائيل، التي هي استثمار اميركي جوهري في الشرق الاوسط، وباقي العالم مجبر على احترام شروط حماية وتفوُّق هذا الاستثمار، وثانيا من اجل فهمهم لمغزى التعاون مع الفلسطينيين ودعمهم في شتى المجالات، والتعاون هنا ليس امرا خيريا وانما هو مشروط بالانسجام مع الاستراتيجية الجماعية لاميركا واوروبا ـ والاستراتيجيه الخاصة لكل دولة من دول العالم لها مصالح في الشرق الاوسط.

ان تغيير معادلة التعامل الدولي بشروطها الامنية والسياسية يتطلب نشوء قوة قادرة على التغيير، وحتى الآن لا توجد في الشرق الاوسط هذه القوة ولا اتوقع ان تكون حكومة حماس قادرة على ذلك، رغم سعيها الجدي للتغير ورهانها السياسي على حتمية تكيف العالم معها وليس العكس.

وتجاوزاً للجانبين الامني والاقتصادي، رغم كونهما العنصرين الاساسيين للنجاح او الفشل، هنالك الجانب السياسي واشتراطاته الصارمة وفواتيره الباهظة معنويا واستراتيجيا.

ان الاخوة في حماس يتضايقون كثيرا حين يقال لهم إن شرط التعامل الاميركي والغربي عموما هو الاعتراف باسرائيل، وفي حالات كثيرة يوجهون ملاحظات كما لو ان الذي يضع هذا الشرط هم رجال فتح والسلطة، مع ان الامر في واقع الحال ليس كذلك، وهنا يجدر التنبه الى حقيقة صارخة ومؤلمة بعض الشيء، فليس المطلوب اميركيا واسرائيليا، وحتى غربيا، مجرد الاعتراف باسرائيل بل هنالك ما هو اكثر من ذلك، اي انتهاج سلوك ينطلق من هذه القاعدة ليشمل منظومة عمل وعلاقات وسياسات.

وحين اعترفت منظمة التحرير بحق اسرائيل في الوجود اكتشفت ان الامر ليس مجرد سطور تكتب على ورقة ولا إعلان صريح عبر اجهزة الاعلام، بل وراءه استحقاقات ليس من السهل تلبيتها، وهنا وضع العالم الاعتراف الثمين في خزانة حديدية كالمجوهرات، وراح يراقب الاداء ومدى تطابقه مع هذا الاعتراف، فوجد خللا كبيرا، عاقب السلطة عليه طيلة عشر سنوات وسيستمر في العقاب وفق الاداء وليس وفق المواقف المعلنة.

انني أقر واعترف ان الاشتراط الدولي هذا فيه من الظلم اكثر مما فيه من الموضوعية، وفيه من التعجيز اكثر مما فيه من المحاكمة العادلة للمواقف والسياسات.. بل انه في حقيقة الامر تعبير عن خلل في الموازين بين سلطة وليدة طرية العود قليلة الامكانات وقوى دولية ذات إمكانات هائلة في كل المجالات.

واذا ما عالجنا الامر من الناحية الاخلاقية فسنجد ان الكيل بمكيالين هو الامر المثبت بنسبة مائة بالمائة. أما اذا عالجناه بمنطق القوي الذي يوظف قوته للضغط والتأثير فسنرى ان العودة الى الاخلاق الحميدة والموازين المنطقية أمر قد يحدث مع أي جهة إلا الولايات المتحدة والغرب واسرائيل.

تستطيع اي حكومة فلسطينية ان تقول لا لهذه المعادلة، ولكن يجب ان تكون جاهزة بالمقابل لدفع تكاليف هذه الـ«لا» او على افضل تقدير التقليل من حجم تأثيرها السلبي.

ان حركة حماس التي وجدت نفسها في وضع محير جراء نجاحها الكاسح في انتخابات لا غبار عليها من حيث النزاهة ودقة الاداء.. ووجدت في ذات الوقت كماً هائلا من التشكيك المسبق بعدم قدرتها على النجاح، يجب ان تمضي قدما في تشكيل حكومتها بدون انتظار نضوج قرار في فتح بالمشاركة، فالمزاج الفتحاوي العام يبدو انه لا يساعد على بلورة قرار كهذا.. ولا شك في ان الوقت آخذ بالنفاد بدون ظهور ملامح التشكيل الوزاري الذي ستتولاه حركة حماس، ومن تستطيع التحالف معه من داخل التشريعي او من خارجه، فلتمضِ حماس قدما، في تشكيل حكومتها، وصياغة برنامجها، ولتحدد قيادة فتح موقفا نهائيا من مسألة المشاركة، ذلك ان الغموض على هذا الصعيد سيربك حماس ويربك فتح ويربك المجتمع الفلسطيني الذي يريد رؤية طريق محدد لإخراجه من محن الحاضر نحو وعود المستقبل.

المجتمع الفلسطيني، الذي اتى بحماس للسلطة لن يستمر في الاحتفال بالنتائج وتبادل التهاني الى ما لا نهاية، فهو يريد إصلاحا وتغييرا ليس باستبدال المواقع بين حماس وفتح وانما برؤية واقع افضل يلمسه المواطن في حياته اليومية وفي تطلعاته البسيطة والمشروعة. وعلى حركة حماس ان تنظر الى معادلة الشعار نظرة واقعية وموضوعية، لان الناخب لن ينتظر سنوات حتى يرى نتائج محددة، بل سيبدأ بالسؤال عن صوته وخياراته ومدى صدقيتها وجديتها منذ الايام الاولى لولادة الحكومة الجديدة، والأجوبة العامة في هذا المجال لن تكون مقنعة بل المقنع رؤية واقع يتغير إلى الأفضل.

* وزير الإعلام الفلسطيني السابق