إدارة بوش بين العرب واليهود

TT

تتنبه ادارة الرئيس بوش بسرعة على حقيقة ان قيادة الدولة الاعظم في العالم لا يمكنها بسهولة ادارة الظهر لبقية الدول، خصوصاً اذا كانت واشنطن تريد الاستمرار في احتلال مقعد القيادة، فالزعامة لها استحقاقات تتطلب التروي والتحوط والتفهم والموازنة بين الامور. كان من السهل على الادارة ان تسوق الهبل في قضية الشرق الاوسط التي الُقيت في حجرها قبل استكمال تقويم الموقف في ظل الادارة الجديدة، لكن التهابل لم يكن ممكناً في القضية الثانية التي سقطت في حجر الادارة، وهي طائرة التجسس على الصين واحتجاز طاقمها. لقد اتضح للجميع عبر اداء الادارة انها غير ناضجة بعد للتعامل مع قضايا دولية عاجلة او مفاجئة، وهذا من حسن حظ العرب ليروا ان القصة ليست فقط سيطرة صهيونية على القرار الرئاسي، وانما تخبط الادارة هو الذي يسمح بالتغريض بها، او بمعنى اخر فالادارة لازالت قابلة للتفاهم والتغيير، وفرص العرب افضل في عهد خصم كشارون. لقد حاولت الادارة في البداية التعامل مع الصين وكأنها جمهورية موز، ومع فشل هذا التكتيك خطت الادارة مسافة قصيرة تجاه الطلب الصيني بالاعتذار اذ اعلنت فقط «الاسف» على موت الطيار الصيني... لكن بكين تريد الاعتذار طريقاً الى وقف عمليات التجسس عليها من الاجواء الدولية القريبة، وتريد من الاعتذار التوصل الى توازن واحترام في العلاقات الدولية، وتذكير الجميع بأنها قوة عالمية لا تقبل بالتعابط عليها... وهذا الموقف الصيني سيخدم معظم دول، وكل شعوب العالم وفي مقدمتهم الشعب الاميركي ليتذكر ان حكومته لا يمكنها البرطعة في الارض دون حساب او مراعاة لحقوق ولمشاعر الغير. الاميركيون بحاجة للتأمل ماذا سيكون موقفهم لو كانوا في موقع الصين؟ ومن جهة اخرى بحاجة للاجابة عما سيفعلون لو احتلت اراضيهم من دولة ترفض تطبيق قرارات الشرعية الدولية؟

من الواضح ان العرب واسرائيل يعرفون اهمية الفترة الاولى في حياة الادارات الاميركية وتحديداً عندما يشمل التغيير تبدل الحزب الحاكم، لكن الحقيقة ايضاً ان الاسرائيليين باعهم اطول وعهدهم اقدم في هذه اللعبة، وادركوا مبكراً ان التأثير في السياسة الاميركية يبدأ من السيطرة على الرأي العام، ثم المرشحين للمجالس التشريعية والتنفيذية الفدرالية، وحكام الولايات وبلدياتها، وطبعاً رئاسة البلاد. ولليهود تجربة سيئة في اميركا الخمسينات ربما كانت السبب المباشر لفعل ما يفعلون. انذاك ومع بداية الحرب الباردة، شن اليمين الاميركي عبر لجان الكونجرس والاعلام حرباً داخلية على الشيوعيين في كل مواقع عملهم، واتضح ان الكثيرين من المتهمين بالشيوعية كانوا يهوداً من اصول اوروبية شرقية، وانحرفت بالتالي الحملة لمعاداة اليهود تحت اسم محاربة الشيوعية الى درجة ان الكثيرين منهم غيروا أسماءهم حتى لا تفضح يهوديتهم ويتاح لهم العمل والتملص من توابع الحملة... وبسرعة اكتشف اليهود ان الرأي العام هو السلاح الافضل وبدأت خطة عملهم واقاموا اللوبي الذي انتقل لاحقاً الى التأثير على السياسة الاميركية الداخلية والخارجية لصالح اليهود في اميركا وعبر العالم ولصالح اسرائيل... ولهذا نرى ايضاً بوضوح الان ان السياسة الاسرائيلية تتصرف وتمارس أي جرائم اذا اتضح لها القدرة على تمريرها على الرأي العام الاميركي والدولي، ولهذا يرون حنان عشراوي اخطر عليهم من اسلحة الطيران والمدفعية العربية. بالعودة لوضعنا الحالي تتجلى ملامح شبكة اُعدت بعناية من قبل اسرائيل واللوبي لصيد كل من الرئيس الفلسطيني والادارة الاميركية الجديدة معاً. الرسائل الموجهة من مجلسي النواب والشيوخ الى الرئيس بوش تطالبانه بمقاطعة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير معاً، بل عقابهما بمنع المساعدات ووضعهما على قائمة الارهاب... هذا الطلب سبقته ممارسات اخرى من ايام الادارة السابقة: عندما رفض الرئيس عرفات التنازل عن قضية القدس واللاجئين وجزء من الضفة ظهر شارون في الاقصى بحراسة جنود باراك فهبت الانتفاضة كما كان يعرف الجميع وتم التحذير من قيامها سلفاً... ثم صعد الاعلام الاسرائيلي بإشارة من باراك، وتبعه الاعلام العالمي، اشهار شخصيات فلسطينية كقيادة بديلة للرئيس عرفات، ولان الفلسطينيين لا يقبلون قيادات غير نضالية، اظهروا الاسماء من قادة ميدانيين لعدة اسباب منها: تنافس البدائل فيما بينها واقدامها على عمليات مسلحة، وهذه العمليات تخدم الهدف الاسرائيلي الشاروني ضد الانتفاضة والسلطة... ولكن تصعيد البدائل القيادية وعملياتها جلب معه طبعاً تصلباً في موقف الرئيس عرفات وتأييده، او على الاقل سكوته، عن التصعيد العسكري وعدم قدرته على الطلب علانية بوقف استعمال السلاح... تلى ذلك كما نرى تشهيراً بالرئيس عرفات والانتفاضة لدى الادارة الاميركية وعبر العالم بأنه لا يريد الطلب من شعبه «وقف العنف»، وسهل على الصهاينة الخلط بين الانتفاضة وبين العنف، وابعدوا صفة القمع الاحتلالي عن انفسهم... اما الرسائل للرئيس بوش، الذي لم يبلور سياسته تجاه المنطقة ويتورط في قضية الصين الان، فهي جزء اخر من شبكة الصيد المنصوبة : هم يعرفون انهم وضعوا عرفات في خانة لا يمكنه التجاوب منها مع طلباتهم اذا اراد الاحتفاظ بموقعه وسط شعبه، وعليه بالتالي تحدي الرئيس بوش الذي حينها بدوره سيقطع العلاقات مع السلطة والمنظمة ـ حسب طلبهم في الرسائل ـ فلا يعود هناك طرف فلسطيني يمكن التفاوض معه، وتذهب قضية المفاوضات بعيداً ويحل بدلها استمرار الاحتلال ومنح حكم ذاتي على جزء من الارض وتحت هيمنة تامة من اسرائيل، أي خطة شارون واليمين الصهيوني الذي لا يريد اعادة الارض ولكنه يريد التخلص من النقد العالمي للاحتلال. حوالي ثلاثمئة نائب وشيخ اميركي انتخبهم الشعب وقعوا على هذه الرسائل للرئيس، فهل فكروا بعواقب مطالبهم لو نفذتها الادارة؟ علينا عدم الجزم بان الادارة وقعت في الشبكة نهائياً كون مواقفها ومطالبها المعلنة تنم عن التخبط الاولي اكثر مما تعني الانصياع للوبي، بل ان تحريك اللوبي الصهيوني للنواب والشيوخ يعبر عن قلق اللوبي من الموقف غير الجلي للادارة، ومن المهم للعرب وللرئيس عرفات تحديداً مراعاة الدقة وسرعة التحرك. هناك محاولة خلط بين الانتفاضة والعنف، ولكن ما طلبه بوش من عرفات هو ان يطالب بوقف العنف، وكان بوش قد اقرن طلبه ذلك بطلبات لشارون. من جهة اخرى فان موقف هذه الادارة الاولي بأنها ستقف بعيداً عن المفاوضات قد ازعج الطرفين العربي والاسرائيلي، ولكن العرب اظهروا مخاوفهم، بينما تحرك الاسرائيليون لكسب الموقف مما يشبه الحياد الى جر واشنطن لمعسكرهم. ينطلق معظم العرب من موقع ان اسرائيل وواشنطن معسكر واحد لاينفصم، وانهم (العرب) يمكنهم التحدث مع واشنطن اسهل من التحدث مع ابنتها، وبالتالي يريدون ضغطاً اميركياً على اسرائيل كما يكررون يومياً... لكن اسرائيل، التي تقر بنوعية العلاقة مع اميركا، ترى ان تأثير واشنطن قوي على الفلسطينيين وعلى كل العرب وان بإمكانها الضغط عليهم مباشرة لصالح اسرائيل، والمطلوب من واشنطن الحفاظ على قوة اسرائيلية تعادل كل العرب، وحماية اسرائيل دبلوماسياً. من المؤكد ان الادارة الاميركية لن تنجح في الابتعاد عن قضية الشرق الاوسط، ولا عن أي قضية في العالم اذا ارادت الاحتفاظ بموقعها القيادي للعالم وتمرير سياساتها ومصالحها... والجلي ان بوش يطمح بالانعزال عن المشاكل والتبعات، مع الاحتفاظ بالتفوق والقيادة، ولهذا نراه يشجع استراتيجية حرب النجوم، وحظر تصدير التقنية، وسياسة قوائم المقاطعة حتى تُلبى الطلبات الاميركية... ولم تكن واشنطن في عهد الادارات السابقة ايضاً تبدي أي اهمية للعدالة والتوازن الا اذا كانت العدالة في صالحها، كما ان كل الادارات خاضت حروباً عسكرية خارجية رغم ادعائها الانعزالية او الليبرالية، فالموقع يفرض نفسه ولن يتمكن بوش من الانعزال من دون التضحية بالمصالح الاميركية. في انتظار ان يتبلور الموقف الاميركي، وتمني التفاعل العربي والفلسطيني الايجابي قبل فوات الاوان، نحتاج الى الانتباه لبعض المجريات: ان لا يدفعنا الاصرار على الطلب من واشنطن التدخل في المفاوضات والبحث عن حلول، الى تقبل الشروط الاسرائيلية بحجة ان هذا هو الطريق الوحيد لوقف التدهور. والتأكيد المتواصل لواشنطن ان سياسة كف اليد تتطلب وقف الدعم والتسليح لاسرائيل اذ بدون الدعم الاميركي لا يوجد احتلال اصلاً، وشرح ان الدول العربية لن تهاجم اسرائيل وبالتالي فأي دعم اميركي لها انما يسخر لاستعباد الشعب الفلسطيني الذي يستحق من الاميركيين التعويض المكثف حتى يرتقي الى المستوى الاقتصادي الاسرائيلي كمدخل للسلام، واثبات ان شارون لا يريد السلام ولا يستجيب لطلبات بوش... وفي انتظار التفاعل الفوري العربي الايجابي لتوضيح الصورة قبل اقرار السياسة الاميركية فنحن بحاجة الى سياسة اعلامية فلسطينية انجع ينسق فيها بين القرار السياسي والنضالي وبين متطلبات الموقف الاعلامي، وبحاجة الى معركة قانونية نطرق فيها ابواب الامم المتحدة ومحكمة العدل الدولية لتأكيد الحقوق العربية والقرارات الدولية السابقة... السياسة الاعلامية والمعركة القانونية ليست ـ حتى الان ـ مسؤولية فردية، وتحتاج لتصرفات قيادية، فقد ارتوينا من الدوران على ذات الساقية لعقود.