حماس ومهمة إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية

TT

واجهت حماس منذ لحظة الاعلان عن فوزها في الانتخابات، حملة واسعة من الضغط والحصار. ضغط أميركي وضغط عربي وضغط إسرائيلي. وينصب الضغط كله حول نقطة واحدة: الاعتراف بإسرائيل وما يترتب على ذلك من الإعلان عن وقف المقاومة للاحتلال والإقرار بمبدأ التفاوض حسبما جرت عليه الأمور طوال السنوات السابقة. وقيل في سياق ذلك إن المساعدات كلها ستتوقف عن السلطة الفلسطينية، وعليها أن تواجه بعد ذلك استحقاق دفع الرواتب، واستحقاق وقف استيراد المواد الغذائية، واستحقاق وقف تصدير المنتجات الفلسطينية، ثم يتم تتويج ذلك كله بإعلان فشل حركة حماس، ويكون هذا الفشل درسا لكل من يتجرأ وينجح في انتخابات ديمقراطية وهو يظن أن الانتخابات طريق نحو الاستقلال وليس طريقا نحو التبعية.

كانت حملة الضغط على حماس، أميركيا واوروبيا واسرائيليا، أمرا طبيعيا، ولكن ما لم يكن طبيعيا على الإطلاق، أن تنطلق أصوات عربية وفلسطينية، تضغط على حركة حماس من أجل أن تعترف بإسرائيل. وقد تابعنا حملات الضغط في الصحف وأجهزة الإعلام، وتابعنا أيضا كيف صمدت حركة حماس أمام هذه الحملة، وأعلنت أنها لن تتراجع عن مواقفها المعلنة، بادئة بذلك تدشين نهج التوقف عن تقديم التنازلات المجانية لإسرائيل، وتدشين نهج وضع الشروط والمطالب الوطنية الفلسطينية إزاء كل مطلب أميركي أو إسرائيلي.

وقد أثمرت سياسة صمود حماس في وجه موجة الضغط الأولى، فصدرت أصوات عربية (السعودية) ودولية (روسيا) ترفض سياسة وقف المساعدات الاقتصادية، وترى في ذلك عقابا للشعب الفلسطيني كله وليس عقابا لحركة حماس فقط. ثم برزت خطوات التراجع الأولى من إسرائيل وواشنطن وبعض الدول المانحة التي وافقت على صرف أموال مستحقة للفلسطينيين لمدة ثلاثة أشهر، وكانت التغطية لهذا التراجع أن هذه الأشهر الثلاثة هي الأشهر الانتقالية التي تبقى فيها السلطة في يد حركة فتح قبل أن تنتقل إلى حركة حماس.

في هذه الأثناء، وضعت أميركا واوروبا وإسرائيل شروطها لقبول حركة حماس في معسكر التبعية، ولكن الوضع الفلسطيني والعربي بدأ يفرز أيضا شروطا جديدة من أجل سياسة جديدة. وبعيدا عن الغرق في التفاصيل فإن النقطة الجوهرية في السياسة الجديدة، تمثلت في إعلان حركة حماس، في المؤتمر الصحافي الذي عقده خالد مشعل في نقابة الصحافيين في القاهرة، إن حماس تسعى إلى إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية.

لم يهتم الكثيرون بهذا الذي أعلنه خالد مشعل، وبقيت الأسئلة والكتابات والتحليلات ومقابلات التلفزيونات، تدور كلها حول الموضوعات الأميركية والإسرائيلية: هل ستعترفون بإسرائيل أم لا؟ هل ستوقفون مقاومة الاحتلال أم لا؟ كيف ستتدبرون أمر الإنفاق على أجهزة السلطة الفلسطينية؟ ونادرا نادرا ما توقفت الأسئلة والكتابات والتحليلات ومقابلات التلفزيونات، عند الموضوع الجوهري والمركزي الذي أشار له خالد مشعل: إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية.

لقد سبق لحركة فتح، وحين كانت منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة أحمد الشقيري سيدة الساحة منذ عام 1964 وحتى هزيمة حزيران 1967، أن طرحت الشعار نفسه، وكان طرحها لهذا الشعار وممارستها له سببا أساسيا في اندفاعها نحو تبوؤ مركز القيادة، في الثورة الفلسطينية أولا، ثم في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية نفسها بدءا من عام 1968. وما نجده أمأمنا الآن هو تكرار للتجربة نفسها، بقدر ما يتيح التاريخ لنفسه أن يكرر الأحداث. لقد قادت حركة فتح تجربة التفاوض مع إسرائيل، انطلاقا من مؤتمر مدريد، وعبر اتفاق اوسلو. وقادت حركة فتح تجربة إنشاء الكيان الفلسطيني، وتجربة الحكم الذاتي، وتجربة المفاوضات حول الحل النهائي، وانتهت بها التجربة إلى ما يشبه اللاشيء، فالحكم الذاتي لم يمارس إلا على 42% من الضفة الغربية، ثم أعادت إسرائيل احتلال هذه المساحة نفسها. وسقطت بذلك تجربة اتفاق اوسلو، وبرزت على أنقاضها سياسة آرييل شارون الهادفة إلى فرض الحلول بعيدا عن التفاوض، وبهدف الاستيلاء على المزيد من الأرض الفلسطينية، من خلال المستوطنات أو من خلال بناء الجدار العازل. وبسبب نتيجة «اللاشيء» هذه، كان طبيعيا أن تنشأ في وجهها سياسة جديدة تطالب بإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية، وجاء ذلك على يد حركة حماس.

كان من الممكن أن ينشأ مطلب إعادة البناء من داخل حركة فتح نفسها، لولا أن الداعين للتغيير من داخل حركة فتح، اندفعوا نحو اليمين أكثر وأكثر، فبرز منهم المؤيدون لاتفاق جنيف (اتفاق يوسي بيلين وياسر عبد ربه)، وبرز منهم المتآمرون على حركة فتح الداعون إلى استقالة القيادة واستقالة المجلس الثوري واستقالة قيادات الأقاليم والفصل بين الداخل والخارج. وبرز منهم المتمردون على توجيهات القيادة، وبينهم الذين رشحوا أنفسهم كمستقلين وكان لهم دور أساسي في تراجع حركة فتح الانتخابي. وشكل ذلك كله إنهاء لإمكانية التغيير والتجديد من داخل حركة فتح. وهنا ... وفي هذه اللحظة التاريخية، كانت حركة حماس جاهزة لملء الفراغ، وواعية لضرورة رفع شعار التغيير والتجديد القائل بإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية.

ماذا يعني هذا الشعار عمليا في المرحلة الراهنة؟ يعني عدة أمور أبرزها:

أولا: إعادة طرح معادلة الصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي أمام العالم بصيغتها الجديدة، الصيغة التي تقول بوجود احتلال إسرائيلي، وبوجود إرهاب إسرائيلي يمارس يوميا عبر عمليات القتل المنظم، وبضرورة العمل للتخلص من هذا الإرهاب بمقاومته، وبخاصة بعد أن انسدت الطرق كلها أمام ما يسمى بالتفاوض.

ثانيا: وقف سياسة التنازلات في الاتصالات والمداولات والتصريحات والمواقف السياسية، والتأكيد على أن التنازلات مطلوبة أولا وأخيرا من إسرائيل، حيث عليها وقف الاستيطان، وإلغاء بناء الجدار العازل، ووقف الاغتيالات، والإفراج عن الأسرى، وإعلان الاستعداد للاعتراف بدولة فلسطينية عاصمتها القدس، وعلى كامل حدود عام 1967. ثم يأتي بعد ذلك وقت مطالبة الفلسطينيين بالتعامل مع الوقائع بموضوعية.

ثالثا: إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية بطريقة جديدة تعبر عن التغيرات التي طرأت على الواقع الفلسطيني. ولا يكون ذلك إلا بشروط ثلاثة: الانتخابات، وتمثيل القوى الفلسطينية الاجتماعية داخل المنظمة بديلا عن سياسة تمثيل الفصائل، وبتكريس مضمون سياسي جديد يحرك منظمة التحرير وهو المضمون الذي يجسد وحدة الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده وحق هذا الشعب في تقرير مصيره كشعب، وبالارتكاز إلى ضرورة تطبيق حق العودة.

رابعا: سيفرز هذا المنهج بشكل طبيعي مسؤوليات عربية إلى جانب المسؤوليات الفلسطينية، بسبب تداعيات الدور الإسرائيلي من ضمن المخطط الأميركي الضاغط على المنطقة كلها. منها مثلا تداعيات ما يقال علنا بأن الاحتلال الأميركي للعراق قصد منه أن يكون هدية لإسرائيل تعزز مكانتها الاستراتيجية داخل المنطقة العربية. ومنها أيضا ما يقال عن ضرورة إقدام العرب على التطبيع الاقتصادي مع إسرائيل بغض النظر عن نجاح أو فشل التسوية السياسية مع الفلسطينيين، على أن يشكل ذلك كله عودة لطرح الموضوع الفلسطيني بصورته الحقيقية كصراع إسرائيلي ــ عربي، وليس مسألة تخص الفلسطينيين وحدهم.

تشكل هذه النقاط الأربع الملامح الأساسية لمخطط إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية، وهي مهمة أكبر بكثير من الجدل الدائر في بعض الأوساط الفلسطينية، حول المشاركة بحكومة تشكلها حماس أو تركها لتواجه مصيرها، كما يعبر عن ذلك بعض رموز الجيل الجديد (المخيب للآمال) داخل حركة فتح. أو ذلك النوع من الجدل الذي اكتشف أصحابه فجأة أهمية منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها مسؤولة عن التفاوض مع إسرائيل، طمعا في أن يستمر نهج التفاوض وتقديم التنازلات بما يضمن كسب رضى إسرائيل وأميركا. ونسي هؤلاء أنهم عملوا مدة تقارب الخمسة عشر عاما على إنهاء منظمة التحرير الفلسطينية من خلال تكريس تماهيها مع السلطة الفلسطينية.

ولكن الثقة لا تزال في نفوسنا، بأن مناضلي حركة فتح الشرفاء، سيذهبون قريبا إلى مؤتمر الحركة، ليطرحوا على أنفسهم الأسئلة الحقيقية، بعيدا عن صغائر الإحباط والمنافسة، وليضعوا أنفسهم من جديد، قوة فاعلة في عملية إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية.