الانقلاب على بنية العنف في العراق

TT

ظل التمرد الذي بدأ بعد شهور من التغيير في العراق، في مناطقه التقليدية، ولم ينجح في الانتقال او الانتشار الى مناطق اخرى الا بتنفيذ عملية هنا او هناك، مستغلة ضعف الدفاعات ومباغته المناطق الرخوة أمنياً.

ومن المعروف ان مناطق العنف التقليدية تقع في الموصل وديالى وصلاح الدين والانبار، ففي الوقت الذي شهدت المحافظات الثلاثة الاولى انحسارا ملحوظا وعودة لمؤسسات السلطة وسيطرة نسبية للاجهزة الأمنية، فان الانبار وحدها ظلت مضطربة ومأزومة، وتشهد فيها مناطق غرب الفرات سيطرة للجماعات المسلحة ونفوذا واسعا لها، يساعد على ذلك انفتاح هذه المحافظة الاكبر مساحة في العراق على دول جوار ثلاثة، وبحدود واسعة وبدون فواصل طبيعية، مع ما توفره الخطوط الدولية الرابطة للعراق مع العالم الخارجي وشرايين تموينه المارة بها من مردود مالي للجماعات المسلحة، وصدى اعلامي لعملياتها، فضلا عن العامل الاهم الذي يميز هذه المحافظة، اذ انها بخلاف المحافظات الثلاثة الاخرى تمثل تجانسا قوميا ومذهبيا وعشائريا، مما يجعلها تحظى بمرجعية ثقافية واحدة، تفرض تماثلا في الرؤى والافكار والسلوك الجمعي، في حين ان تجانس نسيجها هذا يجعلها عصية على الاختراق، فيعزز ذلك بيئة مساعدة تتسم بطابعها الديني المحافظ، فيما توافرت فيها بنية جاهزة لشبكة من الجماعات الدينية المتشددة، تعود بنشوئها الى زمن النظام السابق، بل ان بعض ابنائها اشترك في القتال في افغانستان.

ولقرب هذه المحافظة من بغداد حتى تكاد حدودها تتلاشى اداريا معها وديموغرافيا تخترقها، وهذا ما يفسر كثرة وشدة واستمرار العمليات التي تحدث في الجانب الغربي من بغداد، اذا ما قورنت بجانبها الشرقي، كون غرب بغداد تمثل مقتربات لمحافظة الانبار ومناطق تقليدية لسكنى النازحين منها، وحتى مثلث الاضطراب التقليدي الشهير جنوب بغداد، الذي مركزه اللطيفية، فإنه يرتبط بطرق زراعية تتصل وتنفتح على محافظة الانبار، لهذا اخلص الى ان استقرار محافظة الانبار هو مفتاح الاستقرار في العراق كله، وعليه فان الموقف الجديد للعشائر ولبعض رجال الدين في المنطقة الغربية، ومبادرتها في حصار وطرد الجماعات المسلحة ستشكل انعطافة مهمة، اذ انها لم تأت كحادث عرضي او نبتت من فراغ، وإنما جاءت على تأسيس سياسي وترتيب اقليمي وتغير في المدركات.

اذ انه منذ بضع شهور بدأ الأميركان في الية حوار سياسي متوازية اقليميا وداخليا، حيث تحاوروا مع حلفائهم في المنطقة وتحديدا مع العواصم العربية المركزية ذات التأثير بالشأن العراقي، رافق ذلك تشجيع لدور الجامعة العربية في قيادة المصالحة بين الفرقاء العراقيين، وصاحب ذلك داخليا حزمة من السياسات انتهجها الأميركان هدفت الى اعطاء حصة سياسية متميزة للسنة في الحكم، وضمان عدم حرمانهم من موارد البلد النفطية ووعد بالمراجعة للدستور، والضغط على الاطراف الاخرى والزامها بتشكيل حكومة وحدة وطنية يجد فيها السنة التمثيل العادل لهم والمطمئن لمخاوفهم من السلطة التنفيذية، التي يرون بانها باتت ذراعا موجها ضدهم، مع فتح حوارات في داخل العراق وفي العواصم المجاورة مع قيادات وصفت بانها متقدمه في الجماعات المسلحة.

بعد ان تم كسب القيادات السنية الى صف العملية السياسية، والملاحظ انها اصبحت اكثر تمثيلا للنسيج العشائري والمجتمعي والديني من تلك الطبقة السياسية التقليدية، والتي كان جلها من بيوتات سياسية تاريخية احتكرت التمثيل السني في مجلس الحكم والحكومة التي اعقبته، فإن الخطوة الثانية اصبحت ضرورة كسب المتمردين وتحييد الجماعات المحلية منها، وتطويق وعزل الوافدة والمتعاونين معها، اذ ان الاستقرار لا يمكن ان يعود بدون شريك سني يسهم في عودة الأمن، ويتعاون في اعادة الاعمار ويعمل على حرمان الجماعات المسلحة من البيئة الحاضنة والمساندة ومن الذرائع ايضا.

بجانب الناتج السياسي للانتخابات فانها وسعت الشرخ بين الجماعات الارهابيه من جماعة الزرقاوي وبين المسلحين السنة من ابناء البلد، والذين بدأوا بالانقلاب على منظمة القاعدة وقتالها وهم الذين عمل بعضهم في الماضي معها وفقا لحسابات تكتيكية. فخيار العنف لوحده الذي تصر على استخدامه الجماعات الاصولية المتطرفة فشل في تعطيل العملية السياسية ولم ينفع في تعديل التوازن السياسي، بل ونتيجة لاستهدافاته الطائفية، بات مهددا للبنية المجتمعية ومنذرا باحتراب اهلي، ثم ارتكب الخطأ القاتل بارتداده على بنيته الحاضنه واغتياله لاصوات الاعتدال العشائرية والدينية، ورفضه لأي حل للخروج من المأزق حتى ولو كان عبر تطوع ابناء تلك المناطق لحماية أمنهم.

اعود الى التأكيد بان ما تشهده المنطقه الغربية هو تغير جذري سيكون له اثره الفعال على بنية العنف في العراق برمته، ففضلا عن ما تقدم من اسباب فانه يأتي في ضوء رؤية استراتيجية أميركية في العراق ترى بأن السنة المتدينين او العلمانيين سيكون لهم دور في خلق توازن مستقبلي مع الثقل السياسي الشيعي، بعد انحسار دور القوى الليبرالية والاقتناع بأن الدين سيلعب الدور الرئيسي في حكم العراق للمستقبل المنظور على الاقل، بجانب الخوف المشترك لدى الأميركيين والجماعات المسلحة العراقية من تزايد النفوذ الايراني في العراق، اذ ان هذا الخوف عند الطرف العراقي يعود بجذوره لثقافة العداء لايران التي حكمت النظام السابق، واستمرارا للدور الذي درج على لعبه كموازن قوة لايران وكرادع جاهز وأيضا يتأتى من معطيات ملموسة على تنامي هذا النفوذ، والذي ترى الاطراف المتوجسة منه بأن التصدي له بات مقدما على التصدي للاحتلال الذي هو زائل لا محالة.

واخيرا فان على الحكومة ان لا تظل فاعلا معطلا، بل عليها ان تدعم هذه المناطق بحزمة اجراءات سواء على مستوى التنمية واعادة الاعمار او بخلق فرص للعمل، وبسحب الاحتقان من شارعها باطلاق سراح السجناء والتعجيل بإحالة ملفات المذنبين منهم الى القضاء، والاستماع بإصغاء الى القوى السياسية السنية المعتدلة، والاستجابة لمطالبها وانشغالاتها لتقوية موقفها امام شارعها، اذ ان الاستمرار بتوجيه اللوم لم يعد نافعا، اذ قيل قديما ان من ساواك بنفسه ما ظلم، حيث باتت هذه المناطق هي الضحية الاولى للعنف الذي احتضنته.