عسكرة السياسة الخارجية الأميركية

TT

الإشارات السريعة المتلاحقة التي ومضت على محيط أميركا الخارجي، كحادثة طائرة التجسس الأميركية على مقربة من سواحل الصين، وسعي الولايات المتحدة للانسحاب من معاهدة «كويوتو» والعمل على تطبيق برنامج مظلة الصواريخ الاستراتيجية، ومسألة الدعم العسكري الاستراتيجي لتايوان، وتنفيذ الضربة العسكرية على بغداد في السابع عشر من فبراير (شباط) وطرد خمسين ديبلوماسياً روسياً من اميركا، ومطالبة الحلفاء الأوربيين بوضع قوات التدخل السريع التي ينوي الاتحاد الاوربي تشكيلها تحت قيادة حلف الناتو (أي تحت إشراف أميركا) وعدم معاونة روسيا في أعباء وتكاليف تدمير المركبة الفضائية (مير).. هذه الوقائع الصغيرة لا تقترب من حالة الأزمات لكنها تبدو وكأنها اختبار مقصود في فترة المائة يوم الأولى للإدارة الأميركية لملامح السياسة الخارجية التي أعلنها بوش وطاقمه خلال الحملة الانتخابية في تأكيد قوة اميركا «العالمية» وتكريس هيمنتها، بتجاوز متعمد لسياسة ادارة كلنتون وحزبه الديمقراطي الموصوفة بالتراخي وتهيئة الأجواء للخروج من التزاماتها المعبرة عن نهاية الحرب الباردة، والتي يرى مسؤول مجلس الأمن القومي السابق (ساندي بيرغر) استمرار فعاليتها وحيويتها مهما تبدلت الإدارات السياسية فيقول «لقد كان برنامج السياسة الخارجية الأميركية خلال الحرب الباردة برنامجاً واسع الإطار والأهداف.. أي احتواء الاتحاد السوفييتي، وينتقل بسهولة من إدارة الى اخرى».. أي ان صناع الاستراتيجية العسكرية المتمركزين في البنتاغون و C. I. A والذين كانوا يشكلون عناصر ضغط على ادارة كلنتون، اصبحوا اليوم في عهد بوش في مواقع متقدمة في التأثير على القرار الرئاسي في السياسة الخارجية. وسيجد باول ذلك الجنرال الذي كان بين مراتب الصفوة العسكرية نفسه وهو في موقع الخارجية بدرجة لا تسمح له بتعبير آرائه الوسطية في الإفراط بتوظيف القوة في العالم، بل سيصبح مضطراً لتنفيذ الآراء المتشددة للصقور من العساكر الذين لديهم غالبية واسعة من المتعاطفين بين أوساط الاستراتيجيين والسياسيين داخل الحزب الجمهوري وسيجد هؤلاء القادة أنفسهم متحررين من «الكلنتونية» ونمطيتها وتراخيها أمام ما يحلمون به في فرض للقوة الأميركية في مواقع مرشحة لأن تعرقل استراتيجيتهم في مدى الخمس عشرة سنة المقبلة حسب احد تقارير الاستخبارات الأميركية، وكذلك التقرير الاستراتيجي للأمن القومي الأميركي للقرن الواحد والعشرين الذي وضعه هؤلاء الاستراتيجيون على طاولة الرئيس في ديسمبر (كانون الأول) عام 1999، وأصبحت سياسة فرض «القوة الأميركية» أكثر قبولاً لدى الرئيس بوش الذي أوصله لكرسي البيت الأبيض الجناح المتشدد في الحزب الجمهوري، والمتعاطف مع سيناريوهات المجموعة الاستراتيجية العسكرية التي تجد من الضرورة تجريب تمارين عملية على الأرض تخدم الأغراض النهائية لتلك السيناريوهات، بافتراض اعداء يوضعون في مناخ شبيه بالحرب الباردة يتم من خلاله التعامل وفق مجسات للقوة لمعرفة حجم ومستوى تلك القوة وردعها.. ومثال ذلك ما حدث مع العراق عام 91، والذي لم يكن تمريناً تجريبيا فحسب، وانما عملية حربية كبرى استخدمت فيها جميع الوسائل والأدوات العسكرية المادية والمعنوية، لكنها كانت عملية ينقصها صراع القوة العسكرية وتوازنها.. الهدف هو البقاء في حالة من اللياقة العسكرية المتلائمة مع التطورات الحديثة للقدرة على تحقيق منازلة ناجحة للعدو الكبير والمتوقع ان يكون خلال الخمس عشرة سنة المقبلة في منطقة آسيا وفي المستوى الأول الصين ثم الهند وروسيا، دون الانجرار لمعارك جانبية تقع خارج التصميم مثلما حدث خلال ادارة كلنتون في البلقان (البوسنة وكوسوفو).. فتمرينات القوة الاستراتيجية تتطلب خلق اعداء حقيقيين حتى ولو بحجم صغير، ولكن ليس مثال بن لادن انموذجاً مناسباً مثلما كان مرسوماً له في العقل الاستخباري الأميركي حيث تحول الى شبح اعلامي اكثر مما هو عدو حقيقي على الأرض.

داخل مؤسستي البنتاغون والاستخبارات العسكرية هناك نماذج من النخب العسكرية المفكرة فرضت على بوش الاستماع إليها وقبول آرائها نذكر من بينهم على سبيل المثال اندرو مارشال المعتمد عليه في وضع الاستراتيجيات العسكرية في البنتاغون ويتولى منذ ثماني سنوات إدارة لجنة التنظيم الداخلي في هذه المؤسسة، والمهتم بالحروب المستقبلية بدءاً من الحروب التقليدية وانتهاء بحروب الصواريخ والأسلحة البيولوجية وحروب المعلومات، ويدعو الى تحديث ثوري للمؤسسة العسكرية الأميركية ونزع اثقالها التسليحية في الدبابات والدروع والغواصات، والاهتمام بتحديث سريع للقوة الجوية، والاعتماد على مساحات واسعة من المعلوماتية لتتلاءم والمتطلبات الجديدة، ومن المقررين لضرورة زيادة ميزانية الدفاع والتي ستكون بحدود 913 مليار دولار لعام 2002، وهو عالم ومفكر عسكري استراتيجي من بين المتوقعين بأن معظم النزاعات والحروب ستكون في آسيا خلال القرن الواحد والعشرين، وينحاز الى السيناريو القائل بدور الصين المستقبلي. ومن انصاره ومؤيديه وزير الدفاع الحالي رامسفيلد الذي اعتمد تقرير الاستراتيجية الأميركية للقرن الواحد والعشرين على افكاره، والذي يرى ببقاء الخيار النووي الأميركي قائماً حتى تحافظ اميركا على هيبتها وتفوقها.. وهناك نماذج قيادية اخرى في قيادة البنتاغون لها دور في تحديد مخططات الاستراتيجية العسكرية من بينها وولتر سلوكومب وكيل وزارة الدفاع الأميركية للشؤون السياسية في إدارة كلنتون وهو الذي وضع في مداخلته أمام الكونغرس بتاريخ 29 سبتمبر (ايلول) 2000 غالبية المفردات لسيناريو «العقوبات الذكية» على العراق التي ستعتمد من قبل الإدارة الحالية خصوصاً ما يتعلق بمحاصرة عمليات التهريب من خلف الحدود المجاورة للعراق، وتكثيف استخدام القوة العسكرية، وتهيئة متطلبات زيادة القوة العسكرية في المنطقة حسب الظروف المستجدة مع العراق.

ان المجموعة الاستراتيجية العسكرية قد اصبحت افكارها وخططها محورا تلتقي عنده افكار وسيناريوهات المفكرين والسياسيين الاستراتيجيين الأميركيين الذين يعتقدون أن الصراع لم ينته بنهاية العدو الايديولوجي (الاتحاد السوفييتي السابق) فهو صراع حضاري بين اميركا والغرب وبين الاسلام حسب نظرية (هنتنغتون) وهو صراع من أجل الحفاظ على الهيمنة والتحوط من الأعداء المحتملين لخلخلة تلك الهيمنة أو سلب أميركا تلك المكانة مثل الصين والهند وروسيا.

والأهداف الاستراتيجية العامة لوحدها لا تلبي الحاجات الجيوسياسية للعقل الاستراتيجي العسكري والمهتمة بمسألتي القوات العسكرية وابقائها بحالة من الحيوية والنشاط، وبتطوير مستوى التسليح القتالي وجعل فعاليته الردعية على مستوى الأهداف في نقاط الاهتمام الكبيرة في آسيا ووسط أوربا، ولما كانت نهاية الحرب الباردة قد فرضت التزامات مع القطب الثاني (روسيا حالياً) في اتفاقية Star 3 والتي تتطلب تدميرا في الأسلحة النووية لغاية 2007 وما تلاها في اتفاق (هلسنكي) عام 97 بين الرئيسين كلنتون ويلتسين، فإن تحولاً كبيراً لا بد ان تنقله ادارة بوش في برنامجها السياسي يتوافق وفكرة «القوة» من دون الاخلال بشروط واحكام عهد ما بعد الحرب الباردة.. ومن دون التخلي عن سياسة تفتيت القوة من الداخل التي نجحت مع الاتحاد السوفييتي السابق، اي الاستمرار بتجريبها مع الصين، باستغلال اوضاعها الاقتصادية ومغازلتها بالانفتاح واكتساب منافع السوق الحر العالمي الذي لا تستطيع الصين تجاهله، ومواصلة المنهج ذاته مع روسيا، مع وضع عدو سياسي قريب يساعد سياسة الإدارة الأميركية على إبقاء مناوراتها حيوية وفعالة لتفعيل القوة وضعته تحت عنوان «الدول المارقة» الممتلكة أو في طريقها لامتلاك اسلحة الدمار الشامل (كوريا الشمالية وايران والعراق) ترجمته ادارة بوش في عزمها على تنفيذ خطة الدفاع الصاروخية الاستراتيجية، وهي خطة وجدت فيها كل من روسيا والصين تعارضاً مع معاهدة Star 3 وانتقالاً غير مباشر الى مناخ الحرب الباردة.

ولما كانت عسكرة السياسة الخارجية الأميركية تفترض وجود عدو يهدد المصالح الاستراتيجية العليا في مناطق الاهتمام تتطلب القوة الأميركية المقابلة للردع، فإن البرنامج السياسي للإدارة الأميركية الحالية في منطقة الشرق الأوسط، لا بد من أن يبقي على عدو معوق، ويظل العراق على الرغم من تحطيم قوته عام 91 وما بعدها هو العدو الأول.. حتى ان خفت مسبباته اللوجستية لحين ترشيح عدو جديد محتمل وهو إيران، فيما اصبح هذا الخيار الواقعي المتاح يثير بعض التساؤلات العربية المشروعة المتعلقة بالتحالف الاستراتيجي بين اسرائيل واميركا، خصوصا ان غياب الشعارات التي كان حكم الحزب الجمهوري يرفعها مثل دعوات النظام العالمي الجديد وحقوق الانسان كانت تخفف من وطأة هذه السياسة المزدوجة، بل ان الإدارة الأميركية صعدت من انحيازها للكيان الإسرائيلي، وساهمت في خلخلة الأمن في المنطقة أكثر من أي وقت مضى..

ومهما يقال عن اختلاف في وجهات نظر قيادات صناعة القرار الأميركي داخل الحزب الجمهوري والبيت الأبيض والخارجية بين دعاة التشدد تجاه جميع نقاط الاهتمام الاستراتيجي (الصين وكوريا الشمالية وروسيا ومنطقة الشرق الأوسط في حالتي العراق وايران، والصراع العربي ـ الاسرائيلي) فإن المؤشرات السريعة المتوالية وموقف الرئيس (بوش) منها تشير الى أن جميع هذه المراكز ستكون راضية بمتطلبات التوجهات التي تحددها قوى البنتاغون والاستخبارات العسكرية، أي عسكرة السياسة الخارجية بطريقة ربما تصاحبها الكثير من المعوقات السياسية والديبلوماسية، ولن تتمكن الاجتهادات الوسطية لوزير الخارجية باول من الصمود امام هذا التيار القوي، فيما سيتعرض في موقعه الديبلوماسي الى الكثير من الاحراجات على الصعيد الديبلوماسي الخارجي، فيما ستقود هذه العسكرة الى الكثير من مظاهر التوتر والفوضى السياسية، وسيكون لها تأثيراتها السلبية على المنطقة العربية.

[email protected]