لا أحد لا شيء

TT

لو كان عصام محفوظ مصريا، لكان شيئا من صلاح عبد الصبور وشيئا من الفرد فرج. شاعر غير مكتمل ومسرحي يريد الريادة ولا يقبل ما هو دونها.

ولو كان عصام محفوظ مصريا، لكان جاء من الصعيد الى القاهرة، وأدهشت به العاصمة اكثر مما ادهش بها. وأحب القطر. وصار من رواد غروبي. واحتفل به النقاد. ومثل له سمير غانم مرة واحدة على الاقل.

لكن عصام محفوظ كان لبنانيا. نزل من القرية الى بيروت فوجدها مليئة بأبناء القرى. واعتقد انه المعذب الوحيد لانه فقد أمه باكرا، فوجد نصف اترابه يتامى ومعذبين. وأراد الشعر فرأى جميع اللبنانيين يكتبونه على الجدران. فاتجه الى الشعر الحديث فرأى امامه قبيلة كاملة تعيد نسبها الى اليوت وباوند وسان جون بيرس. فترك الشعر الى كتابة المسرح، فوجد ان الفصحى العباسية لا تتلاءم مع موضوعات العصر وغيفارا، وان العامية الفظة لا تليق، فلجأ الى ما سماه لغة ثالثة، اصبحت هجينة المسرح اللبناني ونجمته وجاذبيته.

لكن مشكلة عصام محفوظ انه لم يكن مصريا. اذ مهما كبر جمهور المسرح في بيروت، فهو قليل. ومهما كبرت الخشبة فهي صغيرة. ومعظم العاملين ادعياء ودخلاء، لا يعرفون، ان المسرح قبل اي شيء عبق وبخور ورائحة خشب عريق. كان اول من أسس المسرح المصري، لبنانيون وعراقيون، مغامرون ومحترفون. جورج ابيض وذلك الريحاني الذي لا يتكرر. ولمعت على الخشبة اليتيمة الصغيرة فاطمة اليوسف، التي شبهت بسارة برنار، سيدة المسرح الفرنسي تلك الايام. ولكن هل كان الرواد اللبنانيون من أسس مسرح مصر ام ان مصر أسست مسرحها؟ ماذا لو ظل جورج أبيض في بيروت ونجيب الريحاني في الكرخ؟

نزل عصام محفوظ من بلدته في جنوب لبنان يتيما ووحيدا وفقيرا. وعاش سنواته الاولى في غرف خالية على سطوح المباني القديمة في وسط بيروت. وكان يحمل على كتفيه طائرا غير مرئي، هو طائر الاضطهاد. وعاش يخيل اليه ان جيشا من المضطهدين يلاحقه كما لاحق الاسكندر الهند. واسوأ ما يحدث لإنسان، هو الاصابة بهذا الوسواس الخناس. وطارده هذا الخناس وزاد في تعاسته وفي حزنه وفي وحدته. وبدل ان يستمر في العطاء والكفاح قرر ان يستريح على وسادة ريادته المسرحية. فخف عطاؤه حتى جف، وخفت مداخيله حتى افتقر. وقرر ان يجافي العالم، وان يحاربه بالصمت. وباكرا أعلن الاضراب عن العمل والحب والحياة. ودخن في شرنقته الخانقة، ليس له خارجها حتى من يلقي عليه تحية الصباح او تحية المساء. وربما كان عصام محفوظ في حاجة الى طبيب او الى ام او الى صديق. او ربما كان في حاجة الى مصر. وقد مات دون ان يكون له احد او شيء.