افتحوا الأبواب للجهاد المدني

TT

مشاعر الغضب التي ما زالت أصداؤها تتردد في أنحاء العالم الإسلامي وبين المسلمين في أوروبا وأميركا اللاتينية تثير أكثر من سؤال، منها على سبيل المثال: لماذا اتسم تعبير البعض عن غضبهم بالعنف؟ ومتى يتوقف ذلك الغضب؟ ثم، لماذا لا تغضب جماهيرنا للعدوان على كرامتها في دنيانا، مثلما تغضب غيرة على دينها؟ وهل بوسعنا أن نستثمر ذلك الغضب لإطلاق شرارة ما يمكن أن نسميه بالجهاد المدني؟

في الأسبوع الماضي سجلت اعتراضاً على العنف الذي شاب تظاهرات المسلمين في بعض البلدان، وقلت انني أتفهم أسبابه، خصوصاً أنه لاح في الأفق بعد أربعة أشهر من الجهد الدبلوماسي والاتصالات من جانب ممثلي الدول الإسلامية، التي قوبلت بالعناد والمكابرة من جانب المسؤولين في الدنمارك. وأضفت أننا لم نتعلم بعد فنون الاحتجاج السلمي، التي سبقتنا إليها الممارسة في الديمقراطيات الحديثة، في حين أنه ليست لدينا ديمقراطيات مماثلة تفرزها. واليوم أضيف بعداً آخر في المسألة، هو أن غياب الديمقراطية في العالم العربي، أفسح المجال لشيوع القمع الذي تعددت صوره، الأمر الذي قلص من مساحة ثقافة التسامح، بقدر ما أغلق الباب أمام التفكير في الحلول السلمية.

لقد قرأت لأحد الفلاسفة قوله ان كل نظام يفرز المعارضة التي يستحقها، فالنظم الديمقراطية تعلم الناس التسامح، من خلال ممارساتها التي ترفع من سقف الحريات وتحترم القانون، في حين أن الأنظمة الاستبدادية تلقن الناس دروساً يومية في القمع والعنف، من خلال ما تمارسه من قسوة ومصادرة للحريات وانتهاك لسيادة القانون.

ان أغلب الأنظمة العربية ترفض الحوار مع المجتمع،، وتمنع التظاهرات السلمية، بل وتقمعها بقسوة مشهودة، في حين تصادر حرية التعبير والاجتماع وتشكيل الأحزاب والجمعيات العامة، فهل تتوقع من هكذا ممارسات أن تربي أجيالاً تعي أهمية الحوار أو تبدع في فنون الاحتجاج السلمي؟

انني أفهم أن الغضب الحاصل الآن المتمثل في التظاهر ودعوات المقاطعة ليس هدفاً في ذاته، ولكنه وسيلة لابلاغ رسالة احتجاج إلى الذين صموا آذانهم طيلة الأشهر التي خلت عن رسائل ونداءات بعض المؤسسات الإسلامية. وطالما تم تسلم الرسالة، فقد آن الأوان لكي نفكر في طي الصفحة، الأمر الذي أحسبه معلقا على خطوتين، الأولى تهدئ من الغضب وتمتصه، والثانية تقلب صفحته وتفتح صفحة جديدة، فالاعتذار من جانب الصحيفة التي ارتكبت الجرم، ومن الحكومة الدنماركية التي وفرت له الغطاء السياسي لبعض الوقت، متذرعة في ذلك بحرية التعبير، ان ثبت مثل ذلك الاعتذار فإنه يحقق مراد امتصاص الغضب وتهدئة النفوس في العالم الإسلامي، لكن إغلاق الملف يمكن أن يتحقق إذا ما صدر اعلان عن الاتحاد الأوروبي يحفظ لكل الأديان كرامتها، ويحظر الاعتداء عليها أو المساس بها، ويعرض من يمارس ذلك العدوان للمساءلة القانونية.

وإذ يعلم الجميع أن الدول الأوروبية متفقة على تلك الضوابط فيما يخص المحرقة النازية لليهود ضحاياها المفترضين ـ وذلك كله مجرد تاريخ ـ فأولى بها أن تراعي حين يتعلق الأمر بعقائد ملايين المتدينين في كل مكان. وفي حدود علمي فإن ثمة اتصالات جارية الآن في هذا الصدد بين ممثل الاتحاد الأوروبي والأمين العام لمنظمة المؤتمر الاسلامي، نرجو أن تسفر عن التنمية المطلوبة.

السؤال الثالث أحسبه يحتل أهمية خاصة. ذلك أن الغيرة على كرامة الدين محمودة ومرغوبة لا ريب، لكن ما يحير المرء حقاً أننا لا نكاد نشهد غيرة مماثلة من أغلب الجماهير المسلمة حين تتعرض كرامة مجتمعاتهم للعدوان والانتهاك. وهو ما يذكرني بتعليق سمعته ذات مرة من الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، وأظنه سجله في بعض كتبه، أبدى فيه استغرابه ازاء هذه النقطة، وقال ان العدوان على شرف البنت في مجتمعاتنا تسيل من أجله الدماء، أما العدوان على شرف الأمة فإنه كثيراً ما لا يستثير أحداً، وقد يقابل بدرجات متفاوتة من التهوين وعدم الاكتراث.

ردي على السؤال أن الدين في عالمنا العربي والإسلامي، يمثل قيمة كبرى تستصحب حساسية خاصة، لأن العقيدة الإسلامية باعتبارها نظام حياة، تحتوي الإنسان كله، ولذلك فإنه يستنفر بقوة ازاء أي مساس بها. لكننا ينبغي أن نعترف بأن ثمة قصوراً في الوعي، جعل كثيرين في ادراكهم للدين يتعاملون معه بحسبانه دعوة إلى عمارة الآخرة، منفصلة عن عمارة الدنيا، في حين أن الخطاب القرآني يجعل من عمارة الدنيا سبيلاً إلى عمارة الآخرة، والنصوص كثيرة في أن الله سخر للإنسان ما في الكون لكي يعمر الدنيا، واستخلفه في الأرض كي يتحمل تلك المسؤولية. (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)، وكما يقول الإمام أبو حامد الغزالي، فإن الاسلام سوى بين السعي للكسب وبين السعي للجهاد، استناداً إلى الآية: «وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، وآخرون يقاتلون في سبيل الله».

ولا أستطيع أن أعفي الدعاة من تكريس ذلك القصور واشاعته. لأن أغلبهم يتبنون خطاباً يكاد يقف عند حدود أداء الفرائض والالتزام بالطقوس والكلام عن الفضائل بمفهومها الأخلاقي المجرد، ولا يدرجون عمارة الدنيا ضمن اهتمامهم، رغم أن ذلك في أصول الثقافة الاسلامية، يعد من العبادة التي يتوب بها المرء إلى الله، إذا خلصت نيته بطبيعة الحال. وقد أسهمت في إشاعة ذلك القصور لا ريب، السياسات التي ألحَّت على الفصل بين الدين والدنيا، والضغوط التي تمارس على الخطباء والدعاة لكي يكفوا عن التعرض للقضايا الحياتية في المجتمع، التي أصبحت خطوطاً حمراء في أقطار عدة، بحيث تظل أحاديثهم تدور في تلك الدائرة العنيفة، التي تشكل في نهاية المطاف ادراكاً مهاجراً من الدنيا، وأحياناً مخاصماً لها، ومن ثم تجعل المسلم انساناً مستقيلاً من الشأن العام، ومشغولاً بآخرته عن دنياه.

قد أضيف إلى ما سبق ظروف الكبت والضغوط السياسية التي تتعرض لها أكثر المجتمعات العربية، التي جعلت من العمل السياسي أمراً باهظ التكلفة، وأفقدت الناس أمل الاصلاح والتغيير، فدفعهم ذلك إلى الانسحاب من السياسة (ذلك أوضح ما يكون في إعراض الأغلبية عن التصويت في الانتخابات العامة)، ولا أستبعد أن يكون ذلك دافعاً لآخرين إلى الانسحاب من الدنيا بأسرها، بأمل أن يجدوا الراحة والسعادة في الآخرة.

ان ثمة تحديات كثيرة، خارجية وداخلية، لا بد لمواجهتها من رفع صوت الاحتجاج والدعوة إلى الاستنفار الشعبي العام، وبغير ذلك لن تتمكن بلادنا من الصمود، وسوف يزداد المعتدون تغولاً وجرأة واستكباراً ـ ففي العالم العربي ثمة احتلال شرس لفلسطين والعراق. وهناك تلويح بتجويع الشعب الفلسطيني من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتهديد آخر من اسرائيل بقطع التيار الكهربائي عن الضفة والقطاع. ثم هناك حصار محتمل لإيران قد يستصحب عملاً عسكرياً ضد منشآتها النووية، وهناك محاولة لابتلاع المنطقة وفرض اسرائيل عليها من خلال مشروع الشرق الأوسط الكبير، فضلاً عن التدخل المستمر في أدق شؤونها الداخلية، من سياساتها الاقتصادية إلى مناهجها التعليمية. على الصعيد الداخلي فبلادنا تعاني من احتكار السلطة وفسادها، ومن سياسات الاستسلام لقوى الهيمنة، ومن كبت الحريات والقمع السياسي، المتمثل في امتلاء السجون بالمعتقلين السياسيين المعارضين الذين عمدت السلطات إلى احتجازهم أو تصفيتهم متذرعة بحجة مكافحة الإرهاب، ذلك إلى جانب العديد من مظاهر انتهاك حقوق الإنسان الأخرى.

هذه القائمة من الهموم تستدعي الاحتجاج، وإذا سكتت عليها الجماهير فإنها لا تفرط فقط في واجب انكار المنكر، وإنما هي أيضاً تشجع القوى المعتدية على الاستمرار في عدوانها والتمادي فيه.. أما كيف يكون الانكار المطلوب، فذلك ينقلنا إلى السؤال الأخير، الذي يعد «الجهاد» المدني محورا له.

لقد أشرت إلى موضوع الجهاد المدني من قبل في أكثر من مقال ومقام. ومتعمداً استخدمت كلمة «الجهاد» لكي ألفت الانتباه إلى اتساع مفهومه، وتضمينه لكل بذل للجهد والطاقة، ومن ثم تجاوزه لفكرة الجهاد بالسلاح التي يحاول البعض حصاره فيها. وليس ذلك تقليلاً من شأن ذلك الأسلوب في الجهاد، الذي ندعو إلى الحفاظ عليه وعدم التفريط فيه، ووضعه في موضعه الصحيح، بحسبانه رداً للعدوان وليس مبادأة به، ولكن تثبيتاً لحقيقة السعة في مفهومه، التي تحدث عنها الفقهاء، حتى أحصى ابن القيم الجوزيه في «زاد المعاد» ثلاث عشرة مرتبة له. بكلام آخر فإن الجهاد المدني هو ذلك الذي يدعو إلى التغيير والانكار دون استخدام للعنف، وفي حدود القانون، ومن خلال مؤسسات المجتمع المدني المختلفة، بل من خلال ممارسات الأفراد أنفسهم. وهو ما يدخل فيه التظاهر والإضراب عن العمل والاعتصام والمقاطعة واستخدام كافة وسائل الاتصال الحديثة عبر الإنترنت والهواتف النقالة للتعبير عن الاحتجاج وإنكار المنكرات التي سبقت الاشارة إليها.

لدينا مشكلتان في ممارسة ذلك النوع من الجهاد، الأولى أن خبراتنا فيه محدودة أو معدومة، ومن ثم فنحن ينبغي أن نتعلم فنونه وأساليبه من النشطاء الشرفاء في الديمقراطية الغربية، وهم كثر بالمناسبة. أما المشكلة الثانية فهي الأكثر تعقيداً، لأن أغلب الأنظمة العربية تضيق ذرعاً حتى بمثل هذه الأساليب. الأمر الذي لا تبيح للناس ممارستها ولا انضاج خبراتهم بصددها، وأخشى ما أخشاه أن يؤدي اغلاق باب الجهاد المدني أو التضييق عليه إلى دفع الشباب إلى البحث عن البديل الأكثر ايلاماً وعنفاً. وفي هذه الحالة فإننا لا ينبغي أن نلوم الشباب، ولكننا يجب أن نتوجه باللوم أولاً إلى الذين أغلقوا في وجوههم أبواب الانكار السلمي، ولم يتركوا لهم خيارا آخر، فاضطروهم إلى استخدام العنف، وفي هذا الصدد فإنني لا أمل من التذكير بالقاعدة الذهبية التي تقول بانك إذا أردت أن تمنع الحرام وتقضي عليه، فلتفتح الباب واسعاً لممارسة الحلال، هل وصلت الرسالة؟