فوز حماس: في انتظار التحرير والحكم الرشيد

TT

جاء انتصار «حماس» في الانتخابات الفلسطينية مفاجئا لكافة القوى السياسية في فلسطين، ومخالفا لكل استطلاعات الرأي العام، ومناقضا لرغبات ومصالح الأطراف الإقليمية والدولية؛ وكان كل هؤلاء يعتقدون أن المنظمة الإسلامية سوف تخرج من الانتخابات قوية عفية، ولكن فوزها بالأغلبية كما جرى كان أمرا آخر تماما يخالف الرؤية والرغبة. ولكن المفاجأة الأخرى التي لا تقل أهمية، فهي أن انتخاب حماس قد حصل على «البركة» القومية، فلم يغالب أحد من العرب في شرعية الانتخاب، ولا قال أحد في فضائية واحدة، كما جرى إبان الانتخابات العراقية، أنه طالما جرت الانتخابات تحت الاحتلال فلا بد وأن في الأمر ملعوبا من نوع أو آخر يضفي الظلال والظلمات على عملية جرت في وضح النهار وتحت أنظار جماعات للرقابة من الشرق والغرب.

وكان ما جرى خيرا بلا شك، واحتراما لإرادة الشعب الفلسطيني بلا تردد، فرغم الخلافات المتعددة مع حركة حماس من داخل فلسطين وخارجها، فقد حازت على القبول والشرعية، بل أن كل من حاول الاقتراب منها والتأثير فيها كان يبدأ بالقول أنه لا يوجد ما يدعو لتغيير حماس لثوابتها ومبادئها. ورغم الموقف الذي تتخذه الحكومة المصرية من حركة الإخوان المسلمين في مصر، فإنها لم تجد لا مشكلة ولا غضاضة ولا حرجا في استقبال الحركة والتعامل معها حتى بعد أن وصل الانفلات الأمني في الساحة الفلسطينية إلى اختطاف الدبلوماسي المصري في غزة المستشار حسام الموصلي، وما أثارته من ذكريات حزينة لاختطاف دبلوماسي مصري أخر، إيهاب الشريف، وقتله في بغداد منذ فترة ليست بعيدة. وحتى الدول الغربية بما فيها الولايات المتحدة، ورغم مسؤولياتها الديمقراطية إزاء شعوبها ودافعي الضرائب فيها وكلاهما لا يتفق مع حماس في موقفها من إسرائيل، فإنها عزمت على الاستمرار في تقديم المعونات إلى الشعب الفلسطيني حتى تعلن حماس عن توجهاتها السياسية والاستراتيجية وبعدها يصير لكل حادث حديث.

كل ذلك يشير إلى القبول بنتائج انتخابات الشعب الفلسطيني حتى ولو كانت مفاجئة ومخالفة للتوقعات والمصالح، ولم يخل الأمر أبدا من الإعجاب أن يتمكن شعب بكل ما يتعرض له من عنت وظروف قاهرة من إخراج انتخابات على هذه الدرجة من المسؤولية والشفافية. ولكن الانتخابات ليست هي كل تاريخ الأمم والشعوب، بل أنها المرحلة التي تفرز القوى التي تلقى القبول في القيادة، وتوجيه دفة سفن البلاد إلى المقاصد والمرافئ عبر عواصف وأنواء. وفي الحالة الفلسطينية تحديدا، فربما لم توجد مشكلة عالمية بمثل هذا التعقيد والتركيب التاريخي، ولا حصلت قضية على هذه المركزية في حياة العالم. وفي اللحظة الراهنة حيث يبرز الشرق الأوسط باعتباره «السياسة العالمية»، وفي خطاب الرئيس الأميركي جورج بوش عن «حالة الأمة» كانت السياسة الخارجية الأميركية تجاه المنطقة تكاد تكون هي السياسة الخارجية الأميركية تجاه العالم كله، فإن مكانة القضية وأهميتها تصبح جلية لمن يرى ويسمع. وتصبح مرحلة ما بعد الانتخابات الفلسطينية أكثر أهمية من تلك المرحلة التي سبقتها حيث كان معلوما المسار الذي تسيره السلطة الفلسطينية في ظل منظمة فتح، أما الآن فإن الكل واقف في انتظار ما الذي سوف تفعله منظمة حماس؟.

وحتى وقت كتابة هذه السطور قبل أيام فإن ما ظهر من حماس هو أنها فوجئت مثل الآخرين بالتفويض الذي منحه إياها الشعب الفلسطيني، وفيما عدا التمسك بعبارات عامة عن الرغبة في حكومة للوحدة الوطنية يمثل فيها الجميع لم تطرح فكرة واحدة يمكن الإمساك بها. ولا حتى طرحت منظمة حماس أسماء لقيادة الوزارة الفلسطينية، ولا قالت بتوجهات لسياستها الخاصة بمجالات الحكم المختلفة؛ فحتى عندما تسعى قوة سياسية ما لقيادة حكومة وحدة وطنية فإنها تكون صاحبة اليد الطولى في تكوين توجهاتها. وما نعلمه هو أن حماس سوف تقود البلاد بأمانة، وسوف تجعلها خالية من الفساد، وكل ذلك بلا شك نوع من النوايا الطيبة، والتوجهات الحسنة، فلم يحدث في تاريخ البشرية أن جاءت حكومة تقول بأنها سوف تسعى إلى شيوع الفساد وقلة الذمة، ولكن القضية هي إستراتيجية تحقيق ذلك. ودون الدخول في النوايا، ولا الإخلال بقاعدة حق حماس في فائدة الشك الذي يفسر دوما لصالح المدعى عليه، فإن الجائز فعلا هو أن حماس لا يوجد لديها لا من البرامج والسياسات ما يجعلها تحقق ما تقول به لأنها ببساطة لم تكن تجهز نفسها للحكم وإنما كانت تجهز نفسها لقيادة النضال الفلسطيني دون التزام بمسؤوليات السلطة السياسية.

ولكن ذلك تحديدا هو سبب روعة الفكرة الديمقراطية، وسبب احتفاء الغرب بها، فهي النظام السياسي الذي يحقق اختبار مقولات القوى المختلفة وإدعاءاتها، وهو الذي يقود القوى السياسية المختلفة إلى التواضع، والاعتراف بأعباء الحكم، والتخلص من أمراض المزايدة والمناقصة على السواء. ولكن اختبار حماس في حكم البلاد ليس هو الاختبار الوحيد، فربما كان الاختبار الأقسى هو الخاص بعملية التحرير لفلسطين وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس. فقد بنت حماس سمعتها السياسية على موقف يرفض وجود إسرائيل من الأصل استنادا إلى مقولة أنه إذا كان لإسرائيل حق في بعض فلسطين فلماذا ينكر عليها الحق في البعض الآخر. وإذا كان الشعب الفلسطيني يكافح من أجل التحرير للأراضي الفلسطينية المحتلة بعد عام 1967، فإن مشروعية التحرير لا تختلف عن تلك الخاصة بالأراضي المحتلة منذ عام 1948. وتكاد تكون هذه الرؤية، وذلك المنطق، تمثل المقابل الفلسطيني الموضوعي لليمين الصهيوني المتشدد في إسرائيل والذي يقول إذا كانت الصهيونية تعني عودة اليهود إلى أرض الميعاد، فلا يوجد فارق حقيقى بين يافا وحيفا من ناحية، ورام الله ونابلس من ناحية أخرى.

مثل هذه الرؤية لحماس كان يعرفها الشعب الفلسطيني قبل انتخابها، وسواء كان بعض من الاختيار راجعا لغضب من فتح أو احتجاج عليها، فإن النتيجة المعروفة سلفا هو أن الشعب الفلسطيني يطلب من حماس أن تقوده إلى ما دعت إليه. ولكن المفاجأة التي جاءت من حماس حتى وقت كتابة هذه السطور لم تكن إستراتيجية واضحة وملهمة للتحرير، ولكن سلسلة من التصريحات والأقوال المتضاربة والمتناقضة التي تحافظ أحيانا على مقولات حماس التقليدية في الحفاظ على الثوابت، والقبول بالأمر الواقع من خلال هدنة طويلة، ولكنها ليست إلى الأبد، وإنما تعني عمليا استمرار الأمر الواقع ـ أي استمرار الاحتلال ـ لفترة لا يعلم مداها إلا الله. هذه الفكرة عن «الهدنة» تكاد تقترب من مقترحات شارون التي كانت تقول بتسوية «ما» مؤقتة على جزء من الأرض الفلسطينية وبعدها تجرى «هدنة» طويلة يجرى فيها الإعداد للتسوية الدائمة التي لا يعلم أحد ما هي على وجه التحديد، ومن ثم يستطيع الكل التعبير عن أحلامه وطموحاته القصوى كما يشاء فليس على الكلمات والأحلام حساب. وبالطبع فإنه ليس مقصودا هنا الإشارة إلى تطابق أو تماثل بين موقف شارون ومنظمة حماس، وإنما التنويه إلى ضرورة منع الالتباسات الكثيرة. والحديث عن القضية الفلسطينية لا ينقطع أبدا!.