العراق.. عادت «أم عنقود» تنثر المأساة من جديد!

TT

ازدهرت تجارة الموت والجهل بالعراق، بعد رفع احتكار الدولة، وخضوعهما للخصخصة مثل سواهما من التجارات. يُمارس الموت بلا رقيب بمداولة الانتقام، ولم يبق الجهل على أديبٍ ولا طبيبٍ ولا حلاقٍ ولا مغنٍ. يتخلل المشهد اشتداد العمليات الانتحارية من قبل عراقيين، بعد أن كنا نحسب الانتحاريين أجانب فقط، معتمدين على ذاكرتنا النقية عن أنفسنا، مسايرةً لقلق شاعرنا العاشق للحياة «منكم رغم الحياة وعبئها... لم يحتسب للموت ألف حساب». كنا نراقب بدهشة بساطة مظاهر عاطفة الحزن والعزاء عند اليمنيين، وأهل الخليج وغيرهم. ليس مثل عوائدنا، يحزنون بلا عويل ونشر شعور وتمزيق ثياب.. إلخ.

تدريجياً، علمتنا القسوة الفاحشة كيف لا يحزننا مشهد الموت الجماعي. وكيف نفرح إذا كان القتلى أقل من عشرة. مشاهد جديدة حتى على مخرجي أفلام الرعب: انتحاري يقتل مجموعة من العمال والموظفين، وآخرون يتعقبون أهل القتلى، فتختلط الاشلاء، ولم يترك الموت بكاةً وبواكي. ألف عراقي وبضع مئات يلقون حتفهم في مياه دجلة، وهم يشيعون جنازة الإمام موسى الكاظم الرمزية. ورئيس الوزراء يعدهم شهداءً للشعائر، وأحزاب تفاخرت بتحشيدهم! مائتان، ومائة وخمسون، وعشرات متفرقة اصطادهم انتحاريون بمدينة الحلة. ثلاثون طفلاً فجرَ انتحاري نفسه وسطهم وهم يلهون باللعب. جنازة تعبر اللطيفية إلى النجف يُقتل المشيع وتقطع رأس الميت.. والمسلسل يطول.

كنا نتوقع أن العراقيين لم يألفوا دواعي الانتحار من أجل الجنة بعد، حتى شاهدنا الانتحارية ساجدة عتروس الريشاوي تتحدث بالصوت والصورة، إثر تفجيرات فنادق الأردن الثلاثة، في نوفمبر 2005. قالت: «فشلت في تفجير نفسي فركضت مع الهاربين». إلا أن صوت هيئة علماء المسلمين مازال عالياً لإطلاق سراح مشاريع انتحارية من زملاء وزميلات ريشاوي، لا تقل قصصهنَ شراً عن قصة «أم عنقود» التي اختلقها العراقيون في الزمن العباسي، مفسرين بها البلاء بوباء جارف. كل هذا وجريدة «البصائر» لسان حال الهيئة تحاول استغلال عاطفة الدفاع عن الشرف والدين، والمثل العليا، للإكثار من العمليات الانتحارية.

نسمع بالمفاخرة عند مواجهة الموت الأحمر، بأن رجالاً من العشائر كانوا يعقلون ركبهم بالحبال، عندما يحمي الوطيس خشية من الضعف. وأثارت إعجابنا قصص مرتدي الأكفان لملاقاة حتوفهم، قبل أن يتحول الكفن إلى مجرد بضاعة للمباهاة أمام الكاميرات، ولما جد الجد انسل المتكفن تاركاً الرعاع يتساقطون. كل هذا لم يكن مشتهراً بين العراقيين، بل كانوا أهل حياة، يجدون تحدي الموت، عقل الركبة وارتداء الكفن، عجائب نادرة الحدوث. مثلما تداولوا تحدي وزير داخلية العهد الملكي سعيد قزاز لعقوبة الموت شنقاً، وتحدي عبد الكريم قاسم لقتلته برفض عصب عينيه لحظة انهمار الرصاص عليه.

أدهش مشهد الموت اليومي شعراء العراق الشعبيين، فقال أبرزهم عريان السيد خلف في قصيدة «القيامة»: «والموت بصلافة يدك (يطرق) على البيبان ويوزع عليه السدر والكافور». صورة في منتهى الفزع، لكنها تصوير دقيق للواقع! تخلى العراقيون عن رقة طباعهم، كانوا لا يمرون بشجرة السدر مساءً، لأن أوراقها تستعمل في غسل الموتى، ولا يساكنون منازل الشؤُم، وإذا الشؤم يتناثر عليهم من كل حدب وصوب. استوعبوا هذا المشهد، في أزمنة مختلفة، وقد نسبته ذاكرتهم إلى حكايات أرخها وهزأ بها الكبار: ابن الأثير (ت 630 هـ)، وأبو الفداء (ت 732 هـ)، وصاحب «الحوادث الجامعة» المنسوب خطأً لابن الفوطي.

كتب ابن الأثير: في السنة 456هـ «ظهر بالعراق وخوزستان، وكثير من البلاد جماعة من الأكراد خرجوا يتصيدون، فرأوا في البرية خيماً سوداً، وسمعوا منها لطماً شديداً وعويلاً كثيراً، وقائلاً يقول: قد مات سيدوك ملك الجن، وأي بلد لم يلطم أهله عليه، ويعملوا له العزاء قُلع أصله، وأهلك أهله، فخرج كثير من النساء في البلاد إلى المقابر يلطمنَ وينحنَ، وينشرنَ شعورهنَّ» (الكامل في التاريخ). أما أم عنقود فطالبت العراقيين بالنواح والبكاء على ولدها، وظهرت أخبارها السنة 646هـ، في عقد احتضار بغداد العباسية، يوم انتشر مرض عضال، وأصاب الحلوق والخوانيق، ولم يبق للبغداديين غير اختلاق شخصية أم عنقود، التي تسببت بالكارثة.

ورد في «الحوادث الجامعة»: أن امرأة ادعت أنها رأت في المنام امرأة من الجن تُكنى أم عنقود. قالت لها: إن ابني مات في هذه البئر، «ولم يعزني فيه أحد، فلهذا أخنقكم، فشاع ذلك بين الناس، فقصد البئر المذكورة جماعة من العوام والنساء والصبيان، ونصبوا عند البئر خيمة، وأقاموا هناك العزاء». وكان النساء ينحنَ ويقولن بلغة العامة، المزدهرة في الثقافة المكتوبة عصرذاك: أي أم عنقود أعذرينا.. مات عنقود وما درينا.. لما درينا كلنا قد جينا.. لا تحردين (تغضبين) منا فتخنقينا».

في السنة ذاتها، كتب ابن الأثير، كشاهد عيان: «قد جرى في أيأمنا في الموصل، وما ولاها من البلاد إلى العراق، وغيرها نحو هذا». لم تنته قصة عنقود في تلك السنة، قال أبو الفداء: «إنما أوردنا هذا لأن رعاع الناس إلى يومنا هذا، وهو سنة سبعمائة وخمسة عشر يقولون بأم عنقود وحديثها، ليعلم تاريخ هذا الهذيان متى كان» (المختصر في تاريخ البشر). أقول، ليس أمام المبتلين غير التأسي بأشباح مثل «أم عنقود» و«سيدوك»، فلا مفر سوى التسليم لزمن لا يُعقل فيه معقول. وخلافاً لما قاله المؤرخون، القصة ليست ضحكة ولا هذياناً، بل ما زالت حدثاً متواتراً يعيشه العراقيون اليوم، يفسرون آلامهم وموتهم بغضب أم عنقود.

كيف لا؟ فالبصرة التي أنتجت مدارس الكلام واللغة والأدب تناكفت مع تاريخها، وعادت بعد ألف ومئتي عام، من موت جاحظها وأصمعيها، تفسر خرابها بتأخر ظهور السيد أحمد الحسن اليماني الموعود «وصي ورسول الإمام المهدي»، وقد تسلمت رسالة ظهوره، في صفحتين، عبر البريد الإلكتروني من أتباع السفير، بتاريخ 21 ربيع الثاني 1426 (2005.. فتأمل المفارقة بين ظهور الموعود وظهور الإنترنت. بين فرش أتباع الموعود البصرة بالجهل وبين قتل الأستاذ الجامعي والطبيب وكل ذي علم. عاد التاريخ، لكن ليس كما زعم كارل ماركس، عاد لا بملهاة ولا بمأساة، بل «حذو النعل بالنعل»: رخص في الأرواح وتسفيه في العقول. و«سجل يا تاريخ»!

[email protected]