نحن أولاد الغجر

TT

تربطني بجماعات الغجر صلة وثيقة منذ الطفولة، عندما هربت إلى الغجر هربا من أسرتي، فقد كانت أمي رحمها الله تضربني كثيرا، ومعها حق، وهي قصة طويلة، ولي كتاب اسمه «نحن أولاد الغجر»، فقد وجدت شبها قويا بيني وبين الغجر، بين المشتغلين بالفلسفة والرهبان والعلماء، فنحن جميعا نعيش في عزلة اخترناها، في صوامعنا ومعاملنا وغرفنا الصغيرة، نحن الذين فرضنا العزلة والانطواء والغربة والاغتراب على أنفسنا. والغجر مثلنا، لولا أنهم لم يختاروا الغربة، وإنما هو المجتمع الذي نبذهم ونفاهم جميعا ووضعهم على الحافة بين القانون والخروج عليه.

فهناك نوعان من التشرد، أن يجد الإنسان نفسه مشردا بلا مأوى ولا سكن ولا أهل ولا احترام من أحد أو لأحد، ومن يختار أن يعيش مشردا حرا، فالمشردون أكثر حرية، فلا بيت ولا سكن ولا أهل ولا جدران ولا سقف، وعددهم في الدنيا مائة مليون، ولو أضفنا إليهم الذين يعيشون كأنهم مشردون لصار عددهم ألف مليون!

وقد عرف العرب الشعراء الصعاليك المشردين الذين يعيشون في الصحاري على ما ينهبون ويسرقون. وعدد من الصعاليك أصحاب مواهب شعرية فذة، ولكنهم اختاروا أن يكونوا أعداء للمجتمع حتى لو لم يكن المجتمع معاديا لهم.

والأديب الفرنسي جان جينيه: صعلوك مشرد لص، وعندما اعتقله البوليس ثم سجنه، قامت مظاهرة يتقدمها الفلاسفة والشعراء والفيلسوف الوجودي سارتر، يطلبون له الرحمة لأنه لا خوف منه ولا ضرر، وإنما هو روح متمردة ثائرة ساخطة وصاحب موهبة عظيمة، إنه متشرد باختياره، وهو لقيط باعترافه، وغجري بإرادته.

عندما ذهبت إلى بلاد التشيك بعد انفصالها عن تشيكوسلوفاكيا سألت عن هؤلاء، قالوا: الغجر، وأسعدني ما رأيت وكأنني وجدت ضالتي بين الناس، هؤلاء غجر بالضرورة وليسوا غجرا بالاختيار، ودون أن أفكر تسللت بينهم وطلبت من يصورني معهم، فملامحهم شرقية مصرية آسيوية هندية. ويقال إن الغجر من مصر ويقال من الهند، ويقال إنهم مجموعة ضالة من الناس، قرروا ألا يندمجوا وأن يبقوا على فقرهم ونفورهم وأن يتنقلوا بين القارات، وعددهم في أوروبا خمسة ملايين، يرفضون أن تكون لهم جنسية، وإنما يظلون هكذا فارين هاربين ملعونين من كل الناس، والتقطوا لي صورة أسعدتني. وعندما عدت إلى الفندق وجدتهم قد سرقوا حافظتي وجواز السفر، ولم أضحك، فهي عقوبة استحقها.

ولما سئل الغجر لماذا يسرقون؟ فكان جوابهم ـ هكذا تقول موروثاتهم الشعبية: إننا كنا عند صلب المسيح فسرق جدنا الأكبر أحد المسامير التي كان يجب أن تدق في جسد المسيح، فخففنا عنه الألم، فقال لنا: افعلوا في دنياكم ما شئتم فقد عفوت عنكم، ومن يومها ونحن نسرق، فلا عقوبة لنا يوم القيامة!

ويقال إن الشاعر المصري السليط اللسان المتشرد الصعلوك الغجري عبد الحميد الديب سئل يوما: وماذا تعمل الآن؟ وكان قد التحق بالعمل في دار الكتب، فقال: بالأمس كنت مشردا أهليا واليوم صرت مشردا رسميا!