حوار .. أي حوار؟

TT

التظاهرة الجماهيرية الحاشدة في ساحة الحرية في بيروت، في 14 شباط (فبراير) 2006، لم تكن مجرد تكرار لسيناريو 14 آذار (مارس) 2005 بقدر ما كانت دعوة لـ«حركة تصحيحية» لـ 14 آذار 2005 .

إجماع جماهير 14 آذار 2006، رغم اختلاف مناطقها وتنوع مشاربها، على تجديد البيعة لشعارات السيادة اللبنانية الكاملة يجعل الدعوة الى حوار لبناني ـ لبناني، في أحسن الحالات، دعوة حق يراد بها باطل، وفي اسوأها محاولة للالتفاف على مقومات هذه السيادة كما أرساها اتفاق الطائف.

بعد سنة على «تغييب» ابرز مهندسي «الطائف»، الرئيس رفيق الحريري، يؤكد اللبنانيون باقتراع شعبي مباشر في ساحة الحرية في بيروت، ان اتفاق الطائف لا يزال قاعدة قيام الدولة واساس سيادتها الكاملة... فعلام الحوار ودعوات الحوار واتفاق الطائف لم يطبق بعد ؟

اليوم، أكثر من أي وقت مضى، اصبح تطبيق «الطائف» بكامل بنوده مطلباً ملحاً بعد أن طبقه انتقائيا، بل ومزاجيا، نظام «الوصاية»، على مدى الخمس عشرة سنة الماضية، وطوعه لخدمة «الوجود» العسكري والسياسي السوري في لبنان.

اتفاق الطائف دعا الى بسط السيادة اللبنانية على كامل الاراضي اللبنانية، ما يعني ارسال الجيش اللبناني الى الجنوب، واشترط نزع سلاح كل الميليشيات المسلحة ـ دون أي تلاعب لغوي بتسمياتها ـ والى حصر أي تعاط بين لبنان واسرائيل باتفاق الهدنة الموقع عام 1948.

واليوم، بعد ست عشرة سنة على اتفاق الطائف، وسنة كاملة على «تغييب» الرئيس الراحل رفيق الحريري، يعود لبنان ساحة مكشوفة لصراع الآخرين على أرضه : سورية تعمل لعودة نفوذها من بوابة ايران، وايران الى تعزيزه من بوابة «حزب الله»، و«حزب الله» الى إدامته من بوابة المقاومة، والمقاومة الى إحيائه من بوابة مزارع شبعا «السورية» حتى اشعار رسمي آخر من دمشق.

كل ذلك يجري واللبنانيون يتلهون بالدعوة الى حوار تستبقه الانانيات الحزبية للبعض والاطماع الرئاسية للبعض الآخر بمناورات اصطفاف سياسي لا تؤدي، في نهاية المطاف، إلا الى إحباط أي محاولة جدية للعودة الى تطبيق اتفاق الطائف.

«الحركة التصحيحية» لـ 14 آذار 2005 تبدأ بإعلان الاكثرية النيابية استعدادها لتحمل مسؤولية الحكم كاملة في هذه المرحلة الدقيقة في تاريخ لبنان، فحشود 14 شباط 2006 في ساحة الحرية في بيروت تأكيد واضح على شرعية الاكثرية التي افرزتها انتخابات العام الماضي وتأكيد شعبي عارم على حقها الديمقراطي في الحكم .

من هذا المنظور، وخصوصا بعد تظاهرة 14 شباط (فبراير) 2006، يجوز اعتبار الاكثرية النيابية في لبنان، من الآن فصاعدا، مقصرة في تحمل مسؤوليتها التاريخية ما لم تطبق اتفاق الطائف كاملا، حتى ولو كانت دواعي هذا التقصير مداراة الحساسيات المذهبية المحلية... فأي تقصير على هذا الصعيد قد يتحول الى فرصة أخرى مفوتة، ان لم يكن فرصة اخيرة، في بلد اعتاد، وللأسف، على إهدار الفرص التاريخية مجاناً.

بأي منطق سياسي عادي، ومن تحصيل الحاصل، دعوة الاكثرية النيابية لان تحكم في أي بلد كان، باسم اللعبة الديمقراطية وباسم التفويض الشعبي الذي نالته انتخابيا... فلماذا يشذ لبنان عن هذه القاعدة وهو المتمسك بنظامه الانتخابي ؟ ولماذا لا يتجاوز اللبنانيون الاعتبارات المذهبية الضيقة التي تحول دون اكتمال لعبتهم الديمقراطية، خصوصا ان المناورات المذهبية التي شهدها لبنان في الشهرين الماضيين، وما طرحته من شعارات «توافقية» تُخضع قرار الاكثرية لموافقة الاقلية، أظهرت ان «المذهبية» توظف الآن لعرقلة قيام الدولة الديمقراطية .

لبنان بحاجة الى حوار، ولكن الحوار المطلوب ليس بين اللبنانيين انفسهم، بل بين لبنان وسورية.

وعلى هذا الصعيد تبرز أهمية أي مبادرة عربية لتحسين العلاقات بين لبنان وسورية شريطة ان يتخلى «البعث» السوري، في نظرته الى لبنان، عن عقدة «البعث» العراقي في نظرته الى الكويت «ويقتنع الاخوة في سورية بأن لبنان دولة مستقلة وذات سيادة»، كما قال رئيس حكومته، فؤاد السنيورة ، عقب عودته من زيارته الاخيرة إلى الرياض.