العراق.. الأكراد يحسمون صراع الأجنحة الشيعية

TT

قبل اجراء الانتخابات النيابية العراقية في 15 كانون الاول (ديسمبر) الماضي، درس حزب الدعوة الذي يرأسه رئيس الوزراء المكلف ابراهيم الجعفري، الانشقاق عن المجلس الاعلى للثورة الاسلامية (رئيسه عبد العزيز الحكيم)، وتشكيل تحالف جديد مع الصدريين اتباع مقتدى الصدر، لكن بسبب الخوف من المشاركة السنّية في الانتخابات واحتمال ان يؤثر ذلك سلباً على سيطرة الشيعة على السلطة السياسية، اتفق الطرفان، الدعوة والمجلس الاعلى على البقاء معاً وضم الصدريين الى الائتلاف العراقي الموّحد. واليوم وبعد مرور شهرين على اجراء تلك الانتخابات عجز الائتلاف عن الاتفاق على مرشح لمنصب رئيس الوزراء فلجأ اعضاؤه ال 129، الذين يشكلون اكبر كتلة سياسية في البرلمان الى التصويت، فصّوت 64 منهم لصالح الجعفري. اللافت ان كتلة الصدر (30نائباً) صوتت كلها للجعفري، باستثناء حسن الربيعي الذي تأخر عن الوصول في الوقت المحدد، ولو وصل لنال الجعفري 65 صوتاً مقابل 63 صوتاً نالها منافسه عادل عبد الهادي، وتقول التقارير ان الصدريين نجحوا في اقناع عشرة نواب من المستقلين بالتخلي عن تعهدهم بالتصويت لصالح عبد الهادي والاقتراع للجعفري.

الجعفري رغم انه اصبح وجهاً معروفاً في العراق، الا انه ليس بصاحب السجل المطمئن، إذ اتُهم خلال الاشهر العشرة التي تولى فيها رئاسة الحكومة الانتقالية بسوء الاداء، الامر الذي جعل له سمعة غير مشجعة، كما ان توتراً ساد بينه وبين الاكراد، الذين لا يزالون حتى الآن حلفاء للشيعة العراقيين، والخلافات بينه وبين الرئيس العراقي جلال الطالباني خرجت الى العلن وكان سببها عدم احترام الجعفري للاتفاقيات الموقعة بين الفريق الشيعي والفريق الكردي.

من هنا جاءت تهديدات الطالباني بعد تسمية الجعفري اخيرا بأنه سيسحب التحالف الكردي ـ الذي فاز بـ 53 مقعداً ـ من الحكومة الجديدة اذا تم استبعاد القائمة العراقية الوطنية التي يتزعمها رئيس الحكومة السابق آياد علاوي من المشاركة، ويقول البعض ان الاكراد يميلون الى تكليف العلاوي بمنصب رئاسة الوزراء.

رد الفعل السنّي على تكليف الجعفري سيكون اكثر قلقاً، فالسنّة يحفظون له انه لم يعط كركوك للاكراد. والصحيح انهم لم يكونوا راغبين في رئيس للوزراء من المجلس الاعلى للثورة الاسلامية (عادل عبد الهادي الرجل الثاني في المجلس)، لأنهم يتهمون ميليشيا المجلس (منظمة بدر)، وقوات الأمن العراقية التي كانت تحت سيطرة وزير الداخلية بيان جبر صولاغ المسؤول الكبير في المجلس، بقتل السنّة، لكن هذا لا يعني انهم يكنون الود للجعفري الذي واجه كل طلباتهم السياسية بالرفض القاطع.

ان نظرة الى هذه التطورات التي تكشف عن التفسخ والانشقاقات بين المجموعات العراقية تشير الى ان تشكيل الحكومة الجديدة سيكون عملية معّقدة وطويلة، وهذا سيؤدي الى مصاعب في وجه الادارة الاميركية التي تحتاج الى البدء في عملية سحب بعض القوات الاميركية قبل موعد انتخابات الكونغرس في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. انما هناك عامل واحد في هذه الازمة قد يريح واشنطن وهو ان المنافسة الشيعية الداخلية ستضعف الموقف الشيعي في بغداد بشكل عام، مما يعرقل على ايران محاولة التلويح بورقة عراقية قوية في يدها، عندما ستبدأ الاتصالات السرية بين واشنطن وطهران، والذي يدفع الى مثل هذه التوقعات انه مع تسمية الجعفري رئيساً للحكومة، اعلنت ايران عن تأجيلها الى وقت غير محدد كل اتصال بروسيا لبحث مسألة تخصيب اليورانيوم الايراني فوق الاراضي الروسية، ويقول مصدر غربي ان طهران لا تتطلع الا الى اتصال مباشر بينها وبين واشنطن، في وقت تشعر الاخيرة بأن الاوضاع في العراق، لو ظل الشيعة متحدين ستظهر ان كل ما حققه الاميركيون في حربهم على العراق، انهم اطاحوا بنظام ديكتاتوري علماني واحلّوا مكانه نظاما اسلاميا متطرفاً سيزعزع استقرار منطقة الخليج عندما يتمكّن.

على كل، لا يريح طهران النفوذ الذي ظهر لمقتدى الصدر في تسمية الجعفري، كما ان تسميته لم تكن بالخبر السار لها، فهي ترتبط بعلاقات وثيقة مع عدد من الاطراف الشيعية العراقية، لكن الاولوية في العلاقات من نصيب المجلس الاعلى للثورة الاسلامية، يليه في المرتبة الثانية حزب الدعوة، والصدريون في المرتبة الثالثة، وهناك ايضاً الحوزة الشيعية في النجف.

الشعور بالانزعاج لا يستثني سوريا ايضاً، التي اعلنت انها ستعيد العلاقات الديبلوماسية مع بغداد عند تشكيل الحكومة الجديدة. لقد جاءت تسمية الجعفري اثناء زيارة مقتدى الصدر لدمشق، واعلانه «انه يضع نفسه وجيش المهدي في خدمتها وفي خدمة ايران». والملاحظ ان دمشق استقبلت الصدر بشكل لافت، ومن المحتمل ان تكون وعدته بدعمه سياسياً في العراق، على اساس انه تجمعهما العداوة للولايات المتحدة في هذه المرحلة، كما ان عليها ان تبدي تضأمناً مع طهران، لكن العارفين يقولون انها سراً وبطريقة غير مباشرة تدعم الاميركيين في محاولتهم الاتيان بحكم مدني الى العراق، فاللعبة الاسلامية التي تديرها الآن، إن كان في دعمها لحكم حماس في الاراضي الفلسطينية، او في تأييدها لتطرف الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد لا بد ان ترتد على نظامها اذا ما جاء حكم اسلامي متطرف في العراق، ويتوقع العارفون ان تبدأ سوريا في تغيير هذه اللعبة والتحول الى اعتماد اسلوب آخر في الاشهر المقبلة، وذلك من اجل ان تكون لها كلمة في العراق الجديد، وان تحاول بناء الجسور مع الاميركيين. وليس معروفاً ما سيكون رد فعل عبد العزيز الحكيم على الترحيب السوري بمقتدى الصدر، فالأخير هو العدو التقليدي للحكيم، والاثنان يتنافسان على الزعامة الشيعية، كما ان مقتدى يعتبر الحكيم اداة ايرانية، في حين ان ايران لم تمد له يد المساعدة عندما قتل صدام حسين والده واخوته.

لقد ظهر الخلاف الشيعي ما بين الحكيم ومقتدى الصدر عميقا منذ بداية التفكير بمستقبل العراق بعد صدام حسين، إذ في وقت لم يعترض احد على حق الاكراد في حكم ذاتي مستقل في كردستان في شمال العراق لأنهم من اثنية مختلفة، ولهم لغتهم، وتاريخهم وتقاليدهم الكردية الخاصة، رأى الكثيرون ان هذا لا ينطبق على الشيعة، الذين هم عراقيون وعرب الأمر الذي لا يخّولهم المطالبة بدويلة مستقلة في الجنوب، وان السبب الوحيد بالتالي لمطالبة عبد العزيز الحكيم بذلك لا يعدو كونه محاولة للسيطرة على النفط، ولإظهار ان انتماءه الشيعي يغلب على انتمائه العراقي. وكان الحكيم طالب خلال الصيف الماضي بالحكم الذاتي للشيعة، على ان يكون في الجنوب والوسط «ويجب الاّ نضيع هذه الفرصة»، وطالب قبل مدة قصيرة بالفيدرالية لبغداد عاصمة الرشيد. اما هادي العامري قائد تنظيم بدر فقال انه يجب على الشيعة الاصرار على تكوين كيان لهم في الجنوب، والا سيندمون.

في هذه المسألة التي تقّسم الشيعة، يقف مقتدى الصدر مع السنّة، انه يعارض الفيدرالية التي ستفتت العراق كما يقول، وهو يدعم تعديل الدستور، في وقت يرفض المجلس الاعلى وحزب الدعوة تعديل الدستور (الذي ينص على الفيدرالية من دون استفتاء)، وتعني الفيدرالية للسّنة ليس فقط خسارة العراق القديم، بل ايضاً كل عائدات نفطه وتهميشهم، وهم مصممون على مقاومة الفيدرالية اذا حرمتهم من حقوقهم، وفي هذه الحالة يكون مقتدى الصدر حليفهم الشيعي الوحيد، وقد يكون الشخصية الوحيدة القادرة على منع نشوب حرب اهلية في العراق قد تُشعل المنطقة. وهو لا يرى حاجة للشيعة الى دويلة في الجنوب، لان رابط الدين يجمعهم وليس العرق، او المنطقة او الاثنية، وسبق له ان قال ان شيعة العراق جزء من العالم العربي والإسلامي ولا يجب ان يقتطعوا لأنفسهم، مهما كانت الظروف، دولة صغيرة «في عراقهم».

وتبين ان الصدريين يعارضون دخول اياد علاوي الى الحكومة الجديدة، ويعود ذلك الى الصراع بين الصدر وعلاوي، ففي شهر حزيران (يونيو) من عام 2004 توصل الاميركيون الى وقف لاطلاق النار مع الصدر بعد ان وافق على حل جيش المهدي وأعلن رغبته في الانضمام الى العملية السياسية، وقد رحّب الرئيس العراقي آنذاك غازي الياور بهذا الاجراء وأعطى رئيس الوزراء اياد علاوي الضمانات للصدر بأن لا يلقى القبض عليه، لكن علاوي تراجع عن وعده، وفي في شهر آب (اغسطس) اغارت القوات الاميركية والشرطة العراقية على مقر الصدر ومنزله، بهدف اعتقاله او قتله وتدمير حركته، فلجأ هو الى المسجد وقُتل الكثيرون من اتباعه، وتدخل آية الله السيستاني فأنقذ مقتدى الصدر شرط ان يحل فعلاً الميليشيا التابعة له، على ان تغادر القوات الاميركية مدينة النجف.

إن الطريقة التي يحكم فيها مقتدى الصدر مدينة الصدر في ضواحي بغداد لا تبشّر بالخير لمستقبل العراق، لكنه مستعد لاطاعة اوامر السيستاني دائماً، وكذلك الامر بالنسبة الى الجعفري الذي هو بالمناسبة صهر السيستاني. ومن المؤكد ان السيستاني لن يسمح للصدر بأن يقرر ما هو الخط الاحمر ويقرر بالتالي من يشارك في الحكومة المقبلة او لا يشارك، بعد ان ساهم في ايصال الجعفري ليسجل اول كسب على عبد العزيز الحكيم. لقد حسب الصدر كل الحسابات لكنه تناسى معادلة اساسية وهي القوة الكردية القادرة الآن على نسف كل ما اعتقد انه حققه،وليس هناك من صدمة اسوأ من ان يتحول النجاح وبسرعة الى سقوط.