العلاقات الموريتانية ـ الأمريكية إلى أين؟

TT

في الوقت الذي كان فيه وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد يزور تونس والجزائر والمغرب، كان وفد أمريكي آخر عالي المستوى من وزارة الخارجية والأجهزة الأمنية يزور موريتانيا في سابقة أثارت اهتمام مراقبي الشأن السياسي في هذا البلد الذي يعرف منذ تغيير (3 أغسطس ـ آب) تطورات نوعية متسارعة.

وليس مصدر الاهتمام منحصرا في مستوى الزيارة، بل في توقيتها ودلالتها بعد سبعة أشهر من الانقلاب العسكري الذي انفردت الولايات المتحدة بإدانته، وطالبت غداته بعودة الرئيس المخلوع ولد الطايع إلى كرسيه الضائع.

ولم يكن الموقف الأمريكي أوانها مفاجئا لمن يدرك طبيعة العلاقة الوطيدة التي ربطت النظام السابق بالإدارة الأمريكية على الرغم من أن العلاقة بين البلدين كادت تقطع بعد حرب الخليج الأولى 1991 إثر انحياز ولد الطايع الواضح للعراق قبل أن ينقلب عليه ويقطع شعرة معاوية معه في نهاية التسعينات.

وتفيد مصادر مطلعة وقريبة من دائرة القرار أن المفاوضات الموريتانية ـ الأمريكية التي التأمت في واشنطن عام 1993 على هامش الدورة السنوية لهيئة الأمم المتحدة أفضت إلى طرح الأمريكيين شروطهم لاستعادة الأواصر الطبيعة بين البلدين، وتتمحور حول شرطين أساسيين؛ هما التطبيع مع إسرائيل والانخراط الفاعل في مسلك التسوية الشرق أوسطية، وإنهاء الروابط القائمة مع النظام العراقي التي وصلت إلى شأو بعيد نهاية الثمانينات أيام الصراع السينغالي ـ الموريتاني التي دعم فيها العراق موريتانيا عسكريا وسياسيا.

وسرعان ما استجاب ولد الطايع للشروط الأمريكية، فبدأ باعتقال قادة حزب «الطليعة» البعثي الذي دعمه في الانتخابات الرئاسية عام 1991، طاردا في الآن نفسه سفير العراق في نواكشوط الذي كانت أبواب رئاسة الجمهورية مفتوحة له في كل الأوقات.

وتلت هذه الخطوة البوادر الأولى للانفتاح على الدولة العبرية خلال لقاء جمع وزيري خارجية موريتانيا وإسرائيل في مدريد تمخض عن إقامة علاقة دبلوماسية بين الطرفين على مستوى مكاتب مصالح، قبل أن يتم رفع مستوى التمثيل إلى درجة السفارة المقيمة في الوقت نفسه الذي كانت سفارة العراق تعلق في نواكشوط والعلاقات تقطع بين البلدين.

وهكذا ظل التلازم واضحا بين مسار الانفتاح المتزايد على اسرائيل والقطيعة المتزايدة مع العراق، في الآن نفسه الذي كانت فيه الروابط مع واشنطن تتحسن بالتدريج.

فطويت المرحلة التي كان فيها السفير الأمريكي براون (المستشار القانوني السابق لقائد أركان الجيش الأمريكي في حرب العراق عام 1991) يهدد الرئيس الموريتاني ـ الذي يكاد يجاور مكتبه في القصر الجمهوري السفارة الأمريكية ـ بالحصار ويتهمه في الصحافة علنا بالوحشية وانتهاك حقوق الإنسان.

ومع أن سقف الاتصالات الرسمية بين البلدين لم يرتفع بصفة علنية ملموسة، فكان الرئيس ولد داداه الذي أطيح به عام 1978 آخر رئيس موريتاني يزور الولايات المتحدة (ويلتقي بصفة عابرة برئيسها الذي كان جون كيندي أوانها)، إلا أن التنسيق السياسي والأمني بينهما تدعم باستمرار، خصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، التي اغتنمها ولد الطايع لتصفية الحساب مع خصومه من الاتجاه الإسلامي الناقم على التطبيع مع اسرائيل، واستطاع بالفعل تسويق «الضربة» لواشنطن المهووسة بحرب الإرهاب والتطرف.

ولم يكتف ولد الطايع بتسليم بعض المطلوبين الموريتانيين للأجهزة الأمنية الأمريكية، بل شن حرب أفكار حقيقية على «التطرف العقدي والديني» باسم التشبث بمصادر «التشريع الموريتاني» من فقه مالكي وعقيدة أشعرية وتصوف جنيدي. وطالت الحملة المذكورة المعاهد والمراكز الثقافية الدينية ومنابر المساجد، قبل أن تشمل كافة رموز التيار الإسلامي، بمن فيها الفقيه الشاب محمد الحسن ولد الددو، والسفير الجامعي المختار ولد محمد موسى، والناشط السياسي المعروف جميل ولد منصور، الذين لم يخرجوا من غياهب السجن إلا بعد انقلاب 3 أغسطس.

وقد بدا من الواضح في السنتين الأخيرتين أن موريتانيا أصبحت حليفا مهما بالنسبة للولايات المتحدة إثر انفرادها داخل الصف العربي بالاحتفاظ بسفيرها المقيم في تل ابيب في أوج الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وبعد انبثاق مؤشرات واضحة على قيام بؤرة للإرهاب الأصولي على الخط الشمال ـ غرب افريقي على حدود موريتانيا الشمالية والشرقية.

يضاف إلى هذين العاملين تحول موريتانيا إلى دولة نفطية واعدة، مما يرشحها بحكم موقعها الجغرافي على الساحل المقابل لأمريكا لأن تكون حلقة متميزة في دائرة اهتمامها الاستراتجي.

واستطاع ولد الطايع بالفعل أن يوظف لصالحه هذه المعطيات الجديدة، خصوصا بعد الانقلاب الفاشل الذي كاد يطيحه يوم 8 يونيو (حزيران) 2003. وبعد اعتداء الجماعة السلفية للدعوة والقتال الجزائرية على الوحدة العسكرية الموريتانية في منطقة المغيطي الحدودية عام 2005، فأقنع شركاءه الأمريكيين بأن بلاده غدت في مقدمة جبهة الصراع على الإرهاب الأصولي. ولذا لم يكن التنديد الأمريكي بانقلاب 3 أغسطس مفاجئا للمراقبين، حتى ولو كانت لهجة التنديد قد خفت بعد لحظة الصدمة الأولى، بعد أن تأكدت الولايات المتحدة أن التغيير لن يستهدف المصالح الأمريكية الحيوية، ولن يتعرض لملف العلاقات مع اسرئيل، ولن يفضي إلى التنصل من التزامات العهد السابق بخصوص الحرب على الإرهاب والتطرف.

ومع أن الإدارة الأمريكية أقصت موريتانيا من لائحة الدول ذات الأفضلية في التعامل التجاري (وهو قرار شكلي لا أثر له في الواقع بالنظر لهامشية العلاقات التجارية بين البلدين). كما قد تكون أثرت في قرار صندوق النقد الدولي تأجيل إلغاء المديونية الموريتانية الذي اتخذ العام الماضي، إلا أنها عبرت عن ارتياحها للضمانات المقدمة من الحكومة الانتقالية الموريتانية بخصوص تسيير المسار الديمقراطي وللإجماع الوطني الشامل القائم في البلاد الذي شمل فضلا عن أحزاب المعارضة كل التشكيلات المنضوية في الأغلبية الرئاسية السابقة، بما فيها الحزب الجمهوري الذي كان يرأسه ولد الطايع نفسه.

ومع أن تصريحات نائب وزيرة الخارجية الأمريكية الذي ترأس وفد الولايات المتحدة لم تخل من غموض وإبهام، إلا أن كل المؤشرات العينية تؤكد أن لحظة الأزمة تم تجاوزها، وأن الزيارة الأخيرة أعادت العلاقات بين البلدين إلى مستواها الطبيعي ولو غابت عنها تلك النغمة الحميمة التي لم تكن ترقى كثيرا لشارع تحركه صور الاحتلال الأمريكي للعراق والانتفاضة الفلسطينية أكثر مما تحركه الأوضاع الداخلية الملتهبة.