أثارت مظاهرة بنغازي الدامية التساؤل حول المظاهرات العربية. ربما ما حدث في بنغازي كان الاستثناء لا القاعدة لأنها بالفعل خرجت عن التصميم الرسمي.
السؤال بشكل عام: كيف تسمى مظاهرات شعبية في بلدان ضد الحركات السياسية الشعبية ولا تجيز اجتماعات سياسية معارضة حتى لو كانت بين شخصين؟
الأكيد أن اي مجتمع لا يسمح له بمظاهرة ضد نظامه السياسي لا يمكن ان تسمى أي مسيرة احتجاجية فيه بريئة وتلقائية. هذا هو حال معظم المجتمعات العربية التي تسمح بتسيير المظاهرات فقط ضد الغير. المظاهرات، في معظمها، مرتبة حكوميا، والسائرون فيها من موظفي الحكومة.
مظاهرة بنغازي اختلفت الى حد ما. ملامحها الأولى تدل على انها واحدة من المظاهرات المسموح بها رسميا، لأنها ضد ايطاليا، حتى افلتت من رقابة الأمن وسيطرته، ووضعت الكل في حرج بالغ. ولا بد ان الإشارة الخضراء التي سمحت للمسيرة ان تقصد السفارة الايطالية قصرت في مواكبتها الرقابة الأمنية التي يفترض ان تتعرف على من يتقدم الصفوف، وتمنع من ان يندس بينها مخاتل او مجهول، وتعطي الموافقة على شعارات السائرين والزعيق بها وكذلك اليافطات التي سيرفعونها.
لكن المسيرة افلتت من يد المنظمين، وأعطت صورة عكسية يفترض الا يسمع بها أحد، وهي ان المظاهرة خطفتها حركات اصولية عنيدة، ذات استقلالية عن التوجيه السياسي الرسمي. والا كيف تسنى للمتظاهرين ان يشعلوا النار في مبنى دبلوماسي رغما عن رجال الأمن؟. احتمالان لا ثالث لهما. اما ان قادة المظاهرة، وهم موظفون رسميون، لم يعرفوا الحدود واختلطت الأمور عليهم بين ما يجوز ولا يجوز، والثاني انها كانت تمرينا لمعارضة رسمية خطفتها جماعة وجعلتها مظاهرة حقيقية.
اما مظاهرة دمشق الصاخبة فلم يصدق احد انها عفوية قط. وكذلك العنف في مظاهرة بيروت في اليوم التالي، حيث بدت مظاهرة مجهزة للشغب الرسمي، والشيء نفسه حدث في طهران.
المظاهرات في العالم العربي لم ولن تؤخذ بجدية من قبل الناس او الحكومات الأجنبية. فالجميع يعلم حق اليقين انها حفلات منظمة رسميا، ومطبوعة يافطاتها في مطابع الحكومة، ولا تعبر بالضرورة عن مطالب الناس الاساسية التي يمكن ان تحركهم للتظاهر. ومع تقديري للذين ملأوا الشوارع في مظاهرات الخمسين الماضية، لم يكونوا الا مجرد مجاميع رسمية وحسب. ما يعبر عن الرأي الشعبي حق التعبير فهي قضاياه المعيشية المباشرة التي تعنى بحياة المواطن وأولاده، والتي يحظر عليه في معظم المنطقة الخروج الى الشارع للاعلان عنها والصراخ بمطالبه حيالها.