أين هي: قبل أن تحتفلوا بها غدا

TT

يوافق غداً تاريخ 21 فبراير ذكرى «اليوم العالمي للغة الأم»، وجدير بها من مناسبة أن نعيرها التفافة ولو متواضعة، فمن مقتضيات الصدق مع النفس، الاعتراف بانتقال حالة الإحباط لأمتنا من أبعادها المادية إلى المعنوية التي تعتبر اللغة أهم جزء فيها، وبالرغم من مقولة علم اللغة الحديث الذي يؤمن بحتمية انتماء الإنسان «إبداعياً» إلى لغته الأم.

التاريخ لم يسجل أن أمة حققت تقدمها الحضاري الحقيقي بلسان غيرها، إلاّ أننا لا نزال نعاني من عقدة الدونية والاستلاب المتمثلة في الارتباط باللغات الأجنبية، وخاصة في واقعنا العلمي، ناهيك من محادثاتنا اليومية على المستوى الشخصي، وهو ما فطن إليه الرئيس الفرنسي ميتران حين حذر شعبه من طغيان الإنجليزية، مما يفسر إصرار بعض دول العالم على تدريس علومها بلغاتها القومية، امتداداً من اليابان إلى ألبانيا، مروراً بإسرائيل وإحيائها للغتها العبرية وهي الميتة، فإلى جانب جعلها لغة الأبحاث الذرية في معهد وايزمان، صاغت من الجذور اللغوية العربية، بإضافات عبرية وباستغلال الصلة الاشتقاقية ما بين اللغتين مفرداتها العلمية الجديدة.

وللأمانة، لم تساند اللغة العربية في عصرنا قوة كبرى مثلما حدث مع الإنجليزية والفرنسية أو حتى الروسية والألمانية، وجل الدعم الذي حظيت به لغتنا انحصر في الجانب الروحاني، الذي يجسده القرآن الكريم، فعند خروج العربية من تحت مطرقة الدولة العثمانية وعجمتها التركية، لم تجد في انتظارها دولاً متماسكة لتحميها، ولا شعوباً مستنيرة وفكراً عقلانياً سائداً ليغذيها، وإنما هو مجرد الالتحاف بها كونها اللغة الأم، فتركت بمفردها تصارع تحديات التغريب والتسهيل، ومع هذا، وبعبقرية منها انتصرت في الغربة، كما لو كانت في الوطن، فبفضل كتابات لمهاجرين من أمثال جبران ونعيمة وأبي ماضي، اكتست حلة حضارية فاقت جهود أجهزة الجامعة العربية وسواها. ومن غريب الأمر وما يحز في النفس العربية، كيف احتلت دعوات تبسيط العربية في تاريخنا معاركاً خاضها كبار الكتاب والشعراء، دون مراعاة أن هناك حدودا وأصولا في حياة الأمم لا تخضع للتساهل، وإلاّ كان مصيرها العبث.. توأم التشويش والعقم، وللدارسين للغة الفرنسية لهم أن يلاحظوا درجة تعصب أهلها للغتهم بقواعدها وطريقة لفظها شبه المستعصية على غير الفرنسي، فلا تجدهم مثلا يتحرجون من نقص لغتهم للرقم سبعين، فينطقونه «ستون وعشرة»، ولا للرقم ثمانين وما يقابله من أربع عشرينات، أو أربع عشرينات وعشرة للرقم تسعين، وحالهم يقول هذه لغتنا مصدر فخرنا بكل استثناءاتها النحوية وعقدها اللفظية.

وعودة إلى لغتنا نضيف، لو كان أصل الحكاية مسايرة الإنجازات واستيعابها، فكيف امتطت دول وأولها الصين ركب الحضارة على طبيعة لغتها التي تفوق العربية في تشابكاتها نحواً وصرفاً وكتابة! بل إننا لنرى رجالاً من أمثال العقاد وطه حسين والرافعي وغيرهم، وقد امتزجوا باللغة وتفننوا في ضروبها وتطويعها لأغراضهم، ولم يطالعنا من الأجيال الحاضرة ربيبة تخفيف القواعد، وتجديد الشعر، وتقديم النصوص بعيداً عن الفخامة والتفاصيل المغرقة، ما يدل على حركة إنمائية أدبية مبشرة في صفوفهم.

وإذا انتقلنا بنظرنا إلى زاوية التعريب لاختصر رئيس مجمع اللغة العربية الأردني، عبد الكريم خليفة الوضع بقوله: «الخطر المحدق بنا يكمن في عجزنا عن تطوير اللغة العربية العلمية، لكي تواكب متطلبات العصر الحديث الحضارية والعلمية»، وهنا، فمن أبرز إشكاليات تطبيق التعريب العلمي الاتفاق على المصطلح، وبهذا الخصوص كان لكلية العلوم بجامعة القاهرة تجربة تدريس موادها بالعربية في سنتها الأولى، حتى إذا دخلت السنة الثانية وما تلاها حيث تطوير المناهج من زمن الذرة والإلكترون إلى الحاسبات وما شابه، واجتهاد كل مدرس في الترجمة حسب مفهومه، أثبت الواقع فشله، وعادت الدراسة إلى اللغة الإنجليزية، حرصاً على مصلحة الطلاب من البلبلة، غير أن هذا الكلام لا يمنع من ضرورة تعليم الإنجليزية ومنذ المراحل الأولى الدراسية، فموقفنا من اللغة الأجنبية، إنما هو مرتبط بالمحيط الثقافي والحضاري العام للأمة العربية، وكما أن للغة الأقوياء مبدأها في فرض نفسها، فنحن لا نملك خيار تجاهل الإنجليزية ومن أوائل شروط التوظيف في بلادنا إجادة التحدث بها والكتابة، من دون اهتمام مساو لإتقان العربية أو مدى سلامتها.

لن يكون من الواقعية انتظار أن نسود العالم حتى نعلي من شأن لغتنا، وإنما هي محاولة لتقريب الفجوة قدر الإمكان ما بيننا وبينهم، فلا داعي إن كان هناك مؤتمر على أرض عربية وأغلب المشاركين من العرب، أن تكون لغة الخطابة بالإنجليزية، كما حدث في منتدى جدة الاقتصادي مؤخراً، وليكن اعتزازنا بلغتنا أكبر من رغبتنا في عرض مهاراتنا وتحصيلنا العلمي، فلا يمكن للغة والترجمة أن ينتعشا من دون ممارسة وانتهاز محافل كهذه فرصة لذلك على الأقل، ومن المفارقة أن الحاكم الألباني الأصل محمد علي قد أصر على تعريب العلم وعلى أعلى مستوياته في كلية الطب بمشروع أجهض بقرار انجليزي عام1887، ولا زالت الدول العربية مترددة في اتخاذ قرارها السياسي بتعريب العلوم حتى يومنا، على أن التنسيق في هذا الأمر لو حصل من أهم الخطوات المطلوبة، وإلاّ انتهينا بخمس ترجمات مختلفة ومتضاربة لكتاب واحد، كما حدث مع منهج الرياضيات الحديثة الذي قدمته منظمة اليونسكو للعالم العربي وكان بلغة أجنبية.

غاية القول، لا توجد لغة متخلفة، ولكن هناك أمة في طور التخلف أو التقدم، وعلى ضوء هذا أو ذاك تتحدد قيمة لغتها، فإن بقيت العربية مع كل التشتت الذي عشناه، ومع كل اللهجات المحلية لبلادنا المتجزئة عاملاً أساسياً لوحدتنا، واللغة الرسمية لخطابنا، فلا زال الأمل معقوداً بحروفها إلى يوم الدين، وبمسؤولية أهلها وبإمكاناتهم المالية يمكن بحملة نفسية واسعة التصعيد من اعتباراتها: العلمية والسياسية والثقافية، وعلى قدر الاقتناع والإرادة العامة يكون التطبيق.