هارب تلاحقه الأضواء!

TT

في زمن التواصل المتعثر بين الأدباء العرب، دعوني أحدثكم اليوم عن أديب سعودي كان يُفترض أن يكون إبداعه أول صادراتنا في هذا البلد لكل العرب، لكن حالت دون ذلك صعوبات التواصل والحظوظ العواثر، فعبد الله عبد الجبار ليس مجرد أديب، ولكنه موسوعة من النبوغ النادر، والإبداع الثري، والقيم الشامخة.. وهو باختصار رواية كبيرة جدا لم تكتب..

لقد أشعل عبد الله عبد الجبار فتيل النقد الأدبي قبل عشرات السنين، يوم كان النقد في جل طروحاته مجرد عرض انطباعي ساذج، ليجعل من النقد إبداعا مضافا إلى الإبداع.. هو من جيل رواد الأدب السعودي ومن أبرز راياته، عاش جنبا إلى جنب مع قادة التنوير الأوائل حمزة شحاته وأحمد السباعي ومحمد حسن عواد وآخرين.. وكان ندا لهم، وقامة لا تقصر عن قاماتهم.

معرفتي بهذا الرجل الشامخ تعود إلى سنوات بعيدة على إثر صدور كتاب لي، فكنت التقي بزملاء يخبرونني أنهم حصلوا على الكتاب إهداء من عبد الله عبد الجبار، فلقد كان هذا الرجل النبيل يشتري نسخا من الكتب الحديثة ليهديها إلى أصدقائه تشجيعا لي ولأمثالي من المؤلفين الشباب «آنذاك!»، مع أنه رجل فكر لا علاقة له بالمال والأعمال، فكان لزاما عليَّ أن أبحث عنه لأشكره.. وفي حضرة الرجل الذي كان يعيش وحيدا في بيته بأطراف المدينة إلا من آلاف الكتب، وجدت نفسي أمام الجانب الآخر من شخصية الرجل، ذلك الجانب الذي لا يمكن أن تفصح عنه الكتب بنفس القدر من الدقة، فلقد وجدته كبيرا في كل شيء، في عفته وشموخه ونبله وزهده وتواضعه.. وهو في عزلته التي اختارها لنفسه متابع لكل ما ينشر في الصحف، ويغلب تفاؤله على أحكامه، فلا يرى مما نكتب سوى النصف المملوء من الكوب.

لزهده في الصحافة والمنتديات والأضواء إصرار عجيب، فهذا الرجل الذي تطارده الشهرة بارع في الهروب منها.. ففي كل مرة أكتب فيها خبرا عنه أو مقالة يفاجئني باتصاله ليقول لي بأدبه الجم: «وماذا يهم القراء من رجل الأمس؟!»، وهو كما وصفه الزميل علي سعد الموسى بأنه الرجل الذي «عاش قرنين، قرناً كاملاً معنا وقرناً آخر قادماً سبقنا جميعاً إليه».

فإذا كان أدب عبد الله عبد الجبار يمكن العثور عليه بين صفحات كتبه، فإن سيرته الشخصية الثرية رواية تحتاج إلى من يكتبها، فلن نتوقع من زاهد مثله أن يكتب لنا سيرته الذاتية، وتلك مهمة من أحبوه وأفسح لهم مجالا للاقتراب منه.. وحسنا فعل مهرجان «الجنادرية» حينما اختاره شخصية العام الثقافية، فلعل ما صحب هذه الاحتفالية من دراسات وبحوث تقول لنا الكثير عن سيرة الرجل الذي آثر الصمت عن الحديث عن الذات، وتركنا نقتبس الضوء مما تناثر من أطراف الحكايَا.

[email protected]