اختبار لـ«حماس».. ولـ «فتح» أيضاً

TT

صحيح أن حركة «حماس» تواجه بتسلمها السلطة تحدياً كبيراً، إلا أن «فتح» تواجه تحدياً مماثلاً، وإذا كان السؤال المطروح على «حماس» هو: كيف ستدير الصراع من موقع كانت دائماً على النقيض منه؟، فإن السؤال المطروح على «فتح» هو: هل ستتصرف بحسبانها حركة تحرر وطني ما زالت موجودة في حلبة الصراع، أم أنها ستتخلى عن دورها وتترك الحلبة لاغراق «حماس» وافشالها؟، بكلام آخر: هل ستحتفظ «فتح» بموقعها في جبهة الصراع ضد الاحتلال، فتنقذ اسمها وتطهر تاريخها، أم ستعتبر أن صراعها في المرحلة المقبلة هو ضد «حماس» وليس ضد اسرائيل؟.

نتائج المشاورات الجارية الآن لتشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة، ستجيب عن هذه الأسئلة، فإذا شاركت «فتح» في الحكومة، لتصبح مع «حماس» والقوى السياسية الأخرى، حكومة جبهة وطنية احتشد فيها ممثلو الشعب الفلسطيني في الداخل بمختلف أطيافه، فإن تلك ستعد نقلة مهمة في مسيرة الحركة تتقدم فيها مصلحة الوطن على ما عداها من حسابات ذاتية وفئوية. أما إذا استسلمت قيادة «فتح» لدعوات بعض المحترفين والمنتفعين، الذين استبد بهم الانفعال في البداية، فتصايحوا داعين إلى المقاطعة، ونقلت الصحف عن أحدهم ـ ممن يحتفظون بعلاقة جيدة مع اسرائيل! ـ أن المشاركة مع «حماس» في الحكومة تعد «عاراً»(!). وإذا جاز لنا أن نتصارح في هذا الصدد، فإنني أقرر بأن هذا الموقف كان مفاجئاً، على الأقل بالنسبة للذين يتابعون المشهد الفلسطيني من الخارج، ذلك أن الأصداء التي ترتبت على فوز «حماس» مفهومة ومتوقعة، في رد الفعل الاسرائيلي إلى الأميركي والأوروبي، وحتى بالنسبة للدول العربية التي تصالحت مع اسرائيل، أو تلك التي خاصمت الحركة الإسلامية، لكن الذي لم يخطر على بال أحد منا أن يستقبل بعض قادة «فتح» الحدث على الذي تناقلته الأخبار وتابعته التقارير الخارجة من الأرض المحتلة، والذي بدا فيه أن أولئك البعض يتصرفون وكأن فلسطين أصبحت وقفاً كتب باسمهم، وليس لأحد أن يحل محلهم في نظارته. وتلك مفاجأة أخرى، أطلت علينا «فتح» من خلالها بوجه آخر، على النقيض تماماً من الوجه المشرق والوضاء المستقر في الوجدان العربي والإسلامي. ذلك أننا في الخارج اعتبرنا حركة «فتح» طليعة مناضلة جاءت لتقود تحرير فلسطين من الاحتلال الاسرائيلي، أو هكذا قرأنا صفحاتها المتوهجة الأولى التي حفلت بالمواقف النضالية الدالة على صدق ذلك الادعاء، لكننا في تعلقنا بـ «فتح» والتفاتاً حولها، لم ندرك بشكل كاف حجم المتحولات التي طرأت على بعض شرائحها خلال العقود الأربعة التي خلت، خصوصاً بعدما انتقلت من تونس إلى الداخل الفلسطيني، وصارت الحركة المناضلة سلطة حاكمة، استسلمت لمختلف الغوايات التي ينزلق إليها حكام العالم الثالث، حين يستمرئون النفوذ ويتهافتون على اغتراف الثروات، ويحيطون أنفسهم ببطانة المنتفعين، الذين ترتبط مواردهم ومصائرهم باستمرار احتكار السلطة، وما تصورنا أن يجيء يوم تصبح المشكلة الآتية في فلسطين ليس تحريرها من المحتل الإسرائيلي، انما تحرير السلطة من احتلال عناصر «فتح» لها.

أدري أن ذلك تعبير يتسم ببعض القسوة، التي تتجنى على تاريخ «فتح» وسجلها الذي وصفته تواً بأنه مشرق ووضاء في التاريخ الفلسطيني، لكن خبراتنا علمتنا أن رحلة الحركات السياسية والنضالية لا تثبت على وتيرة واحدة طول الوقت، وأنه كثيراً ما صارت بدايات تلك الحركات مختلفة بالكلية عن نهاياتها. الذي يقرأ هذه الأيام أخبار الصراعات الدائرة في حزب «الوفد» بمصر، لا يتصور أن ذلك الحزب هو الذي قاد ثورة 1919، وكان معبراً عن اجماع الأمة المصرية وضميرها. لذلك فنحن إذ نحترم تاريخ أي فصيل سياسي أو نضالي، ولا نقلل من شأن ماضيه، إلا أننا حين نتعامل معه فإن تقييمنا له ينبغي أن ينبني على معطيات اللحظة الراهنة، وإذا قمنا بتنزيل هذه الفكرة على الواقع الفلسطيني، فسنجد أن ممارسات عناصر «فتح» بعد اعلان نتائج الانتخابات التشريعية تبرر ذلك التوصيف الذي ذكرته، وتجعل من تحرير السلطة من عناصر «فتح» أحد التحديات التي تواجه حركة «حماس» في تحملها لمسؤولية الفلسطينيين الجديدة.

وقبل أن استطرد في ذكر الشواهد التي تدلل على ما أقول، أكرر أن تعميم الحكم السلبي على كل عناصر «فتح» لا يخلو من ظلم وتجن، لأن «فتح» لم تعد كياناً واحداً متماسكاً، لكنه بات إطاراً يضم كيانات عدة، تختلف مواقفها، ليس فقط ازاء التعامل مع حركة «حماس»، لكن أيضاً في تعاطيها لمجمل عناوين الملف الفلسطيني. وإذ أقر بأن في «فتح» اناساً لا يزالون قابضين على الجمر، يحتفظون بنقاء واخلاص المناضلين الشرفاء، إلا أنني أسجل أيضاً أن هناك تيارات أخرى نافذة، ما زالت مصرة على احتكار السلطة والاستئثار بالثروة، وفي سبيل ذلك فإنها لم تتردد في تلغيم الطريق أمام حركة «حماس»، وأحسب أنها تتربص بها، وتحشد الحشود لمواجهتها بمختلف السبل، ولن تفوت فرصة الانقلاب عليها إذا سنحت. من أسف أن التيار الصدامي والمتربص في «فتح» حرص خلال الفترة القصيرة التي وقعت بين اعلان النتائج وصدور التكليف بتشكيل الحكومة على حصار «حماس» وتلغيم الطريق أمامها، لافشال مهمتها، ومن ثم دفع الرئيس أبو مازن إلى الدعوة لإجراء انتخابات جديدة خلال فترة تتراوح بين ثلاثة وستة أشهر، بدعوى أن «حماس» لم تتمكن من النهوض بمسؤوليات الحكم التي أنيطت بها.

ففي آخر جلسة للمجلس التشريعي المنتهية ولايته، تم تمرير تعديل يمنح أبو مازن صلاحية انشاء المحكمة الدستورية، رئيسها وقضاتها، بعد التشاور مع مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل، وكان الوضع السابق يشترط مصادقة البرلمان على ذلك التشكيل، الأمر الذي يعني أن القرار الأخير سلب المجلس التشريعي اختصاصه، ووضع الأمر كله بيد الرئيس أبو مازن، ولأن المحكمة الدستورية هي المختصة بالبت في الخلافات بين السلطات الثلاث، فضلاً عن مراقبتها لدستورية القوانين، فإن التعديل المستجد الذي أحال الأمر كله إلى رئيس السلطة، جعل منه المرجعية الدستورية الأولى في حقيقة الأمر، لأنه وحده الذي سيختار رئيس المحكمة وأعضاءها. أيضاً شملت المراسيم الرئاسية التي صادق عليها المجلس التشريعي مرسوماً يقضي بتعيين رئيس لديوان الموظفين تابع للرئاسة، وهو ما يمنح الرئيس، ومن خلفه «فتح»، سيطرة على قطاع الموظفين. وبموجب هذا التعديل، فإن رئيس ديوان الموظفين الجديد قد يرفض منح حكومة «حماس» فرصة تعيين أعداد جديدة من المؤيدين لها في مناصب حكومية أو فصل أو استبدال موظفين ينتمون إلى «فتح» التي تشكل الجسم الرئيسي لموظفي السلطة (140 ألفاً).

كما قضى مرسوم رئاسي ثان بتعيين «أمين عام» للتشريعي، ليحل محل «أمين سر» المجلس، الذي يشغله نواب منتخبون في العادة وبموجب التعيين الجديد يكون الأمين العام للتشريعي مسؤولاً عن جميع موظفي المجلس، وهو ما يحول دون تمكين «حماس» من احداث أي تغيير في بنيته الحالية.

ويقضي مرسوم رئاسي ثالث بتعيين مدير جديد لديوان الرقابة الادارية والمالية.

من المفارقات المثيرة للانتباه أن الصلاحيات التي منحها المجلس لرئيس السلطة، خصوصاً تعيين رئيس ديوان الموظفين، هي ذاتها التي كان أبو مازن وهو رئيس للوزراء قد قاتل في عام 2003 لانتزاعها من رئيس السلطة في حينها، السيد ياسر عرفات، لكن الأيام دارت وإذا بنا نجد أبو مازن يعيدها أخرى لكي يمسك بها، وهو في موقع رئيس السلطة!.

هذه القرارات التي وصفها أحد ممثلي «حماس» بأنها «انقلاب أبيض»، تستهدف إحكام رقابة رئيس السلطة على أداء المجلس التشريعي (من خلال المحكمة الدستورية)، وابقاء جسم السلطة بيد عناصر «فتح» (التي تحتكرها من البداية)، من خلال التحكم في توظيف أية عناصر جديدة، سواء في الأجهزة الحكومية أو تركيبة المجلس التشريعي. على صعيد آخر، نشرت «الشرق الأوسط» (في 17/2)، تقريراً عن قيام وزارات السلطة بإجراء سلسلة من الترقيات والتعيينات واسعة النطاق، شملت عناصر «فتح» دون غيرهم لتحقيق هدفين: أولهما إحكام سيطرة «فتح» على الوزارات والمؤسسات، والثاني إرهاق حكومة «حماس» الجديدة والاثقال عليها. من المعلومات المهمة التي أوردها التقرير ما يلي:

أنه في وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات جرت ترقية جميع الموظفين الذين ينتمون إلى حركة «فتح» دون غيرهم، وأشارت إلى أن هذه الوزارة استحدثت لأول مرة منصب نائب مدير وقامت بشغله من عناصر في «فتح».

وزارة الصحة الفلسطينية عينت خلال الأسبوعين الماضيين 20 مديراً ومديراً عاماً وجميعهم من «فتح»، وتمت هذه الترقيات بتدخل مباشر من مسؤولين في الأجهزة الأمنية ومرجعيات في حركة «فتح»، ومن دون الرجوع إلى رئيس لجنة الهيكلية في الوزارة، وهو موظف برتبة وكيل مساعد أو أي مستويات أخرى.

والمعروف أن الوزارة تعاني من الفساد وسوء الادارة وبالذات في كل ما يتعلق بتحويل المرضى للعلاج في الخارج، حتى أصبحت تلك التحويلات بمثابة تجارة وهبات وعطايا من قبل مسؤولي الوزارة فزادت نفقاتهم في العام الماضي إلى أكثر من 100 مليون دولار.

استوعبت وزارة الداخلية أخيراً 13 ألف عنصر جديد، وعلم أن السلطة أنشأت أخيراً معسكرات تدريب لعناصر من «فتح» لاستيعابهم في سلك الشرطة والأجهزة الأمنية، قبل أن تمارس حكومة «حماس» مهامها.

ويذكر أن مؤسسات السلطة وأجهزتها الأمنية تستوعب 140 ألف موظف تكلف رواتبهم كل شهر خزانة السلطة 95 مليون دولار. هذه مجرد نماذج للمساعي التي بذلها بعض المتنفذين في «فتح» لافشال حكومة «حماس»، الذي هو هدف تتلهف عليه الولايات المتحدة واسرائيل، ناهيك عن أن هذا الموقف يسيئ إلى «فتح» ويسحب من رصيدها، من حيث أنه يقدم هذا الفصيل المتنفذ باعتباره جماعة من المنتفعين من السلطة، الذين أعمتهم المصالح والحسابات الخاصة عن ادراك متطلبات المصلحة الوطنية واستحقاقاتها، بل دفعتهم تلك المصالح إلى تقديم خدمتهم المجانية للذين لم يتمنوا خيراً للشعب الفلسطيني من أي باب. ان الأمل كبير في الفتحاويين الأصلاء الذين لا يزالون يحملون القضية في قلوبهم وعلى أكتافهم، إذ على هؤلاء يتعين المراهنة في الانتصار للمستقبل الفلسطيني، وأيضاً في استعادة الوجه المشرق والمضيء لحركة «فتح» ذاتها، حين كانت قاطرة للوطنية الفلسطينية ومعبرة عن الضمير الفلسطيني.