متى يقام «بيزنس» الحوارات العربية؟

TT

في واحدة من مقالاته الأسبوعية الأخيرة في «الشرق الاوسط» كتب الدكتور مأمون فندى عن «بيزنس» الحوارات العربية ـ الغربية، والحوارات الإسلامية ـ المسيحية، وكيف أن هذه النوعية من الحوارات قد باتت صناعات ضخمة تستغلها مؤسسات ودول وجماعات للدعاية أحيانا، وللكسب أحيانا أخرى، وتبييض وغسل المواقف أحيانا ثالثة، ولمجرد ملء الفراغ أحيانا رابعة. كل هذا «البيزنس» قام على مقولة «صراع الحضارات» التي تعني إما أن الصراع قد قام بالفعل، وتكون مهمة المؤتمرات هي تحويل الصدام إلى حوار، أو نزع الصفة الحضارية عنه والاكتفاء بصراع الثقافات؛ وإما أن الصراع والصدام لم يحدثا بعد ومن ثم وجب منعها من الحدوث.

وربما كانت المشكلة العظمى في الموضوع أن «بيزنس» الحضارات ـ صراعها أو صدامها أو حوارها ـ قام منذ البداية على مقولات فلسفية، وقراءات متعجلة لأحداث تاريخية. ولا يحل هذه المشكلة عادة سوى البحث العلمي التجريبي الذي يحدد موضوعات وحوادث الصراع ويعرفها وبعد ذلك يستقرئ أنماط العلاقات والتفاعلات وعما إذا كانت تشكل قانونا عاما يمكن مع الزمن تحوله إلى نظرية متكاملة الأركان في التطور التاريخي. وكان ذلك تماما هو ما فعله قسم العلوم السياسية في جامعة «غنت» البلجيكية التي أصدرت بحثا في يوليو 2004 ألفه كل من ريك كولسيت ـ أستاذ العلاقات الدولية ـ وتون فان دى فوردى ـ الباحثة الزائرة في قسم العلوم السياسية ـ عن التطور طويل المدى للإرهاب الدولي. وجاء فيه أن هناك فجوة واسعة بين الاعتقاد الشائع عن الإرهاب والحقيقة الواقعية، وأن الاتجاه العالمى السائد للإرهاب الدولي يشير نحو الانخفاض المستمر بشكل تدريجي في العمليات الإرهابية وليس إلى التزايد كما هو شائع. وطبقا لقاعدة المعلومات التي قدمتها وزارة الخارجية الأميركية عن «أنماط الإرهاب العالمى»، وقاعدة معلومات أخرى قدمتها مؤسسة راند الأميركية، فإن الأحداث الإرهابية الدولية خلال عامى 2002 و2003 كانت الأقل خلال 32 عاما، وتعود تقريبا إلى مستوياتها المنخفضة في الفترة 1977ـ 1980.

وبقدر ما كان البحث الذي قامت به مؤسسة راند عن الإرهاب في عام 2004 يشير إلى وجود ارتفاع في العمليات الإرهابية الدولية وعدد القتلى فيها بنسب 45% و 55% على التوالى؛ فإن البحث الذي نشرته أخيرا جامعة غنت عن الإرهاب في عام 2005 يشير إلى تراجع بمقدار الثلث في عدد العمليات (من 393 عملية في 2004 إلى 266 في 2005)، وبمقدار 40% في عدد الضحايا (من 733 إلى 443 بين العامين). ومع الاقتراب أكثر من هذه الأرقام والنظر إليها من حيث توزيعها الجغرافي سوف نجد أنها لا تعبر عن بعد «دولي» وإنما عن أبعاد «إقليمية» حيث حدث معظمها في منطقة وحيدة هي الشرق الأوسط، وبالتحديد فإنه بين كل عشر ضحايا للإرهاب سقطت في عام 2005 فإن تسع منها سقطوت في العراق والأردن وحدهما، ولم تحدث حادثة واحدة، ولم تسقط ضحية واحدة لا في أميركا الشمالية ولا أوروبا الغربية ولا في جنوب شرق آسيا وأستراليا والحزام الآسيوي الباسفيكي، وحتى في منطقة جنوب آسيا التي كانت عامرة بالإرهاب عام 2002 حيث بلغ عدد الضحايا 214 من إجمالى 970 ضحية، فإنها انخفضت إلى 35 فقط في عام 2005.

ومن الجدير بالقول هنا أن تعبير «الإرهاب» هنا لا يستخدم بأي معنى أخلاقي، وإنما باعتباره نوعا من أنواع استخدام العنف ضد المدنيين لتحقيق أهداف سياسية، ومن ثم فإن مجال الإحصاء هنا يقتصر فقط على تلك العمليات التي تقوم بها جماعات على المستوى الدولي بلا قيود قومية على حركتها. ولذلك فإن المقارنة واردة تماما مع الإرهاب المحلى الذي يظهر في بحث جامعة «غنت» باعتباره الإرهاب الحقيقى على مستوى العالم والذي يتزايد من حيث عدد العمليات (من 2247 عملية في عام 2004 إلى 4217 في عام 2005)، وفي عدد الضحايا (من 4333 إلى 7041 بين العامين). وكانت معظم هذه العمليات والضحايا في منطقة واحدة هي الشرق الأوسط (من 2290 ضحية عام 2004 إلى5831 في عام 2005)، وتكاد تكون في دولة واحدة هي العراق حيث بلغ عدد ضحايا العمليات الإرهابية المحلية 5679 في عام 2005 مقارنة بالعدد 2120 في العام 2004.

وبالنظر إلى هذه الحقائق مجتمعة فإنه يصعب اعتبار «الإرهاب الدولى باعتباره ظاهرة تمثل حربا طويلة المدى وصراعا بين الحضارات وصداما بين الثقافات، وإنما هو يمثل تحديا لا يزيد كثيرا عن التحدي الذي تمثله الجريمة المنظمة. ويصعب تماما أيضا القول إن الغرب هو الهدف الرئيسي للإرهاب حيث تبدو معظم الدول الغربية ناجية منه، بل وحتى باتت ناجية من الإرهاب المحلى والذي عاد في معظمه إلى عملية واحدة جرت في لندن وكان عدد الضحايا فيها 56. ويصبح «بيزنس» الحوارات العربية ـ الغربية، والإسلامية ـ المسيحية نوعا من الحرث في البحر، أو استجابة لرغبات المتطرفين الذين نشروا الرسوم المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام في الدنمارك والجماعة التي حرقت السفارات الدنماركية في دمشق وبيروت. ولكن الحقيقة التي تظهرها الأرقام فهي أن الصراع الحقيقي، والإرهاب العنيف يجرى بالفعل داخل إقليم الشرق الأوسط العربي الإسلامي، بل في دولة واحدة هي العراق حيث يوجد فيه حوالى 80 بالمائة من العمليات الإرهابية.

كل هذه النتائج من البحث التجريبي لجامعة «غنت» يدفع إلى إعادة النظر ليس فقط في نظرية «صراع الحضارات» التي تبناها الكثيرون في الغرب، ومن هم أكثر منهم في الشرق، من الأصوليون واليمينيين هنا وهناك؛ وإنما أيضا إلى إعادة النظر في «بيزنس» الحوارات التي لا تعبر عن الواقع. والأخطر أن الواقع الفعلي يشير إلى أن الظاهرة التي تستحق الاهتمام بحق فهي «الصراع داخل الحضارة العربية الإسلامية» ذاتها حيث لا توجد حوارات من أي نوع تقريبا حول هذا الموضوع. وبينما كانت جامعة الدول العربية، وعدد من الدول العربية على استعداد للإنفاق وبذل الجهد لمصارعة صراع الحضارات، فإن جهدا لم يبذل للبحث والحوار حول الصراع الداخلي في الدول العربية بل وداخل دولة عربية واحدة هي العراق حيث تتنافس الجماعات الجهادية السنية والشيعية على القتل المتبادل.

وليس معنى ذلك الدعوة إلى وجود «بيزنس» عربي جديد يجري نحوه الباحثون والساسة، وإنما النظر في القضية كما هي أولا، ثم بعد ذلك إعطاؤها ما تستحقه من اهتمام، خاصة أن هناك من التطورات داخل الساحة العربية ما يشير إلى أن «بيزنس» الإرهاب ذاته ربما يأخذ طريقه نحو الصعود في ظل الفشل العربي المعروف في إدارة أمور الدولة، والعلاقات بين الجماعات السياسية والعرقية، بطريقة رشيدة. وربما لو بذلت نصف الجهود التي تجرى حاليا لتجنب صراع الحضارات ودفعها في اتجاه الحوارات داخل الحضارة العربية ـ الإسلامية لكانت أحوال العالم العربي، والعالم كله، أفضل كثيرا!.