سيرة جديدة لعبد الله بن لندن

TT

سافرت في البحر وفي الصحراء، على ظهر السفن الحديثة وفي السيارات الرباعية القاهرة للرمال. وفي كل مرة كنت أصل الى نقطة الخلاء الكبير، حيث لا شيء سوى الأفق، والأفق سراب، كنت اشعر بالخوف. وعندما تطلع السفينة بنا، وتدفعها الامواج من تحت كساعدي هرقل، اتذكر الذين سافروا قبلنا في بحار مجنونة وسفن صغيرة. وعندما لا يعود في الصحراء شيء، سوى ثعلب تائه في البعيد خلف الوجبة الصعبة، وسوى الافق السرابي المعلق بأطراف صفوة السماء، اتذكر أولئك الذين عرفوها مثل لعبة صغيرة وتاهوا في كثبانها، وشدوا في عكس رياحها، ولفحت عواصفها مسامهم ودوت وازبدت وهددت، ولا شيء يقيهم غضب الامواج الرملية، سوى الصمود والحداء.

وإذا فهم احدنا الصراع بين الصحراء وبين الذين ولدوا في واحاتها وتركوا الى قدرهم، يصعب علينا ان نفهم اولئك الذين جاؤوا من العيش السهل في عواصم الغرب وقرى سويسرا واقاصي فنلندا، لكي يعيشوا هذه التجربة الحادة بكل شظفها. بعضهم جاء وعاد وظل يعود. ومن اشهرهم البريطاني ولفرد تيسيغر الذي هو موضوع كتاب جديد لالكسندر ميتلاند بعنوان «المستكشف العظيم».

لم يترك تيسيغر شيئاً لم يكتبه خلال حياة امتدت الى ما بعد التسعين. لكن ميتلاند يعتمد في السيرة الجديدة على رسائل غير معروفة كان يكتبها الرجل من بلاد الترحال على مدى 40 عاماً بين الثلاثينات والسبعينات، وشملت اثيوبيا والمغرب واليمن وايران وكينيا وجبال الهملايا. وقد عاش عامين في دارفور و5 سنوات في الجزيرة العربية و7 سنوات مع عرب الاهوار في العراق.

وعُرف تيسيغر في الخليج بلقب «عبد الله بن لندن». وقبل وفاته منذ اعوام قليلة قام بزيارة ابو ظبي، حيث عاش رفاقه في الترحل واشهرهم سليم بن غابيشا، وقد تركهم على ظهور الابل وعاد فوجدهم يركبون السيارات الرباعية. لم تكن حياة تيسيغر كلها مجرد تدوين رحلات صعبة، بل كان مغامراً في مرحلة كثرت فيها الحروب. وقد شارك في حرب تحرير اثيوبيا العام 1941 وشهد أهوالها. واحتل ذات مرة قلعة ايطالية مع بعض رجاله. وفي الاهوار كان يمارس مهنة الطبابة بشجاعة. واشتهر في المنطقة بأنه كان ابرع المطهّرين. واهتم عدد من البحاثة في دولة الامارات بدراسة مرحلته في ابو ظبي والاحوال التي عاش فيها. واجرت الصحف الاماراتية مقابلات كثيرة مع رفيقيه الأشهر، بن غابيشا وبن غابينا. وربما كان المغرب العربي، بكل بلدانه، اقل من اعتنى بآثار الرحالة وجمعها ودرسها. وثمة منها الكثير، وليس فقط ما ترك عبد الله بن لندن. فهو كان في اذهان المستكشفين «افريقيا». او ايفريقيا. وهو الاسم الذي اطلقه البربر على قرطاجة وحدها، وجعله الرومان فيما بعد اسماً لقارة بأكملها.