جحور الأبالسة

TT

الأطفال وإن ضحكنا منهم، وإن ضحكنا عليهم في بعض الأحيان، إلاّ أن صفاء ونقاء عقولهم التي لم يخرّبها التلوث بعد، يسدّدون لنا أحياناً أسئلة في (الصميم)، صحيح أنهم لا يستوعبون واقعنا تماماً، ولا يفهمون (لفّنا ودوراننا)، وتقلقهم وتزعجهم (ألغازنا)، إلاّ أنهم يختصرون كل (الأواني المستطرقة) التي نستعملها ونباشرها في حياتنا، ويحولونها إلى (خط مستقيم).

وقد قرأت لأحدهم وهو يروي بعض المواقف التي حصلت له، ويقول: عندما دخلت زوجتي المستشفى للخضوع لعملية جراحية، كان محظوراً على الأطفال دون 12 سنة زيارة المرضى، وبدا أن ابنتنا البكر وعمرها 11 سنة، تفهّمت الأمر، لكن أختها ابنة السنوات الست استصعبت أن تتقبّله، ولم نكتشف سبب كآبتها الدائمة إلاّ حين سمعناها تتحدث إلى والدتها بالهاتف، وكانت تصرخ وهي تودعها والدموع تنهمر من عينيها، وهي تقول: سوف أراك بعد ست سنوات عندما أبلغ الثانية عشرة يا ماما.

ومع محبّتي الكبيرة للأطفال عموماً، إلاّ أنني أعترف لكم أني عندما أواجه أحدهم أكون متحفزاً وشبه متوتر، حيث أنني أتوقع أي تصرّف أو سؤال محرج منه تجاهي، وكان يجلس بجانبي ابن صاحب الدعوة، وهو طفل سريع الحركة لا يستقر على حال، وكان أمامه كأس ممتلئة بالببسي، ومن كثرة حركته اختلّ توازن الكأس، وحاولت تداركها قبل السقوط، إلاّ أنها كانت أسرع مني فانسكبت على ملابس الطفل وملابسي، فما كان منه إلاّ أن ينفجر باكياً، وهو يقول لوالده مشيراً إليّ: إن هذا هو الذي (كبّ الببسي)، واتجهت كل أنظار مَن في المطعم ناحيتي، وقلت لهم بدون تردد: إنه كذاب.. حاول والد الطفل أن يسكته، غير أن (رأسه وألف سيف) لن يسكت، بل انه أخذ يزيد بالصياح ويطلب من والده أن يضربني لأنني وسّخت ثيابه، وزاد من غيظي أن والده أخذ يهدّئه ويقول له: معليش كلنا الكبار من الممكن أن نكب مثل هذا، وليس هناك مشكلة فملابسك سوف نغسلها، وتلبس ملابس نظيفة غيرها.. كل هذا كان يجري وأنا في موقف لا أُحسد عليه، ولست أدري: هل اعتذر لوالد ذك الطفل الشقي على حادث ليس من فعلي، لكنه من فعل ابنه؟!، كما أن الذي جعلني أزهد بالأكل هو أنني استشففت من نظرات الجميع أنهم يصدقون ما قاله ذلك الطفل المفتري، الذي تمنيت في ذلك الموقف لو أنني رفعته من أذنيه مقدار متر واحد من الأرض ثم تركته يسقط!.

وفي تلك الأثناء تذكرت وترحمت على المطرب عبد الوهاب، عندما قال: إنني أخاف أن أجلس منفرداً في غرفة مغلقة مع أي طفل أو مع مجنون، لأنني لا أعلم متى سوف يتوجه بهجومه نحوي.

إذن ارجع في كلامي الذي ذكرته في أول المقال من أن عقول الأطفال جميعهم هي نقيّة وصافية لم يخرّبها التلوث بعد، وأقول: إن عقول بعضهم تخرج الأبالسة من جحورها ـ هذا إذا كان للأبالسة جحور.

[email protected]