المساكين أصحاب المهن

TT

لا أدري لماذا يجل الناس الموظفين والمعلمين وكل اصحاب الرواتب، فما من تعساء في عالمنا العربي من ابناء الطبقة المتوسطة اكثر من اصحاب الرواتب المقطوعة. كان منها ما صادفته في القاهرة قبل سنوات. كنت اتحدث في سيارة تاكسي مع زميلي الاذاعي زاهر بشاي عن مشكل معدتي وما اعانيه منها. واذا بالسائق يتدخل في الحديث على عادة سائقي التاكسي فيسألني عن معدتي وتاريخ مرضي واعراضه. ثم مضى ينصحني عما عليّ ان افعله واتناوله من ادوية. راح يستفيض في الشرح العلمي بما لم اسمعه من اي دكتور من قبل. سألته عن اسرار درايته فأجابني: «ما انا اصلي دكتور يا سعادة البيه». راح يشرح كيف يترك مستشفاه ومرضاه ويسرع لسيارته كلما سمع بأحد يحتاج تاكسي «طبيب ايه يا أستاذ؟ دي عيشة كفاف وغلابة.. البركة في التاكسي وبس».

نزل وفتح الباب لنا. سألته بعد ما أسداه لي من استشارة طبية فقلت: «عاوز ايه؟ ادفع لك اجرة معاينة ولا اجرة تاكسي». فأجابني على الفور: «لا وحياتك يا سعادة البيه. ادفع لي حق التاكسي وبس».

كانت تجربة طريفة، ولكن ما حدث لابن عمتي محمود، كان ابلغ واروع، فلما آن موعد رجوعه من بغداد الى لندن، اخبر الاستقبال في الفندق بأن يطلبوا له سيارة تاكسي. وفي الموعد المحدد نزل الى البهو وسأل الموظفة عنه فأومأت برأسها لضابط الامن. تقدم الضابط لابن عمتي وسأله «انت محمود القشطيني؟» ـ نعم. «تفضل معي».

كان محمود يعرف انه في عراق صدام حسين، لا تسأل، او تجادل ضابط الامن. افعل ما يقوله. ففعل وحمل شنطته ومشى وراء الضابط. قاده هذا الى سيارة من سيارات الامن. فتح الصندوق الخلفي وقال له «خلي جنطتك هنا وتفضل بالسيارة».

انطلقت بهما بسرعة خارقة عبر شتى الطرق الممنوعة للجمهور بما اقنع قريبي بأنه انتهى. مصيره الاعتقال وسوء المآل. راح يلوم نفسه على هذه الحماقة والذهاب الى بغداد. ولكنه وجد فجأة امامه اللوحة الكبيرة «مطار صدام الدولي». وقفت السيارة امام بوابة المغادرين. نزل الضابط واخرج الشنطة لمحمود الذي وقف حائرا لا يدري ماذا يقول او يفعل. ولكن الوحي جاءه اخيرا فأخرج محفظته والتقط ورقة بعشرين باوند وقدمها للضابط. «شكرا يا استاذ! اتمنى لك سفرة سعيدة».

حتى ضباط أمن صدام حسين لم تكفهم رواتبهم فاستعملوا سيارات الحكومة كتاكسي. ومع ذلك فقد كانوا شرفاء واولاد حلال. في هذه الايام اصبح بعض اصحاب الرواتب يشتغلون في الخطف ويشاركون قطاع الطرق في كسب لقمة العيش. تراهم في خطفة واحدة يكسبون ما لا يكسبونه من وظيفتهم طوال حياتهم. يذهبون صباحا لدوائرهم ويختمون على اوراق الجمهور وشكاوى الخطف والسرقات ثم يخرجون ويتنكبون البندقية ويبحثون عمن يخطفونه. والرزق على الله.