من «بقيق» إلى سوق الأسهم: ثروتنا نعمة أم نقمة؟

TT

أحيانا تختلط الأمور على الإنسان، فلا يقدر على تحديد مشاعره بالضبط تجاه واقع ما: هل يحبه أم يكرهه؟ هل هو له ام عليه؟ وحينما يرى آخرين يلحقون ضررا فادحا بأنفسهم، ويطلقون الرصاص على أقدامهم، يسأل .. هل هي علاقة حب عنيف؟!

ما مناسبة هذه التهويمات؟!

خذوا لديكم:

نهار الجمعة الماضي، قام شبان سعوديون صغار، من تنظيم القاعدة، بقيادة سيارتين مفخختين بكميات مرعبة ومتنوعة من المتفجرات، لتنفيذ هجوم هائل على منشآت «بقيق» النفطية، شرق السعودية. الهجوم أحبط، والسيارات فجرت بنيران الامن.. والشابان عبد الله التويجري ومحمد الغيث لم يبق منهما الا مزعا صغيرة من ذلك اللحم الطري... المرشوش على جذوع اليأس.

ومنذ ثلاثة ايام، رعب هائل يلف المتداولين السعوديين في سوق الاسهم، بعد التراجع الكبير الذي اصاب اضخم سوق مال في منطقة الشرق الاوسط، بعد ان هوى مؤشر سوق الأسهم 979 نقطة فيما اعتبر أكبر انخفاض يشهده السوق، حيث تراجعت معظم أسعار الأسهم بالنسبة القصوى للهبوط، لتتراجع القيمة السوقية للأسهم المدرجة من 3.1 تريليون إلى 2.94 تريليون ريال.

اي ان البعض الآن خسر، او كاد، كل مدخراته وقروضه التي أخذها من البنوك من اجل جني الارباح في سوق اسهم يصفها الكثيرون بأنها اصبحت اكبر مجال لاعادة نشر الثروة. وصار سوق الاسهم ظاهرة كبرى تتجاوز اطارها الاقتصادي والمالي البحت، ليصبح جزءا من استراتيجية الامن الوطني، بعد احصائيات تشير الى ان حوالي 80% من الشعب السعودي موجود في السوق بشكل او بآخر.

هجوم بقيق الذي نفذه شبان سعوديون، وهزة السوق الكبيرة، او ما أسماه البعض بالأحد الاسود، حدثان حصلا في اسبوع واحد، ومن غير الربط الميكانيكي بينهما، لكنهما يقودان الى اعادة السؤال مجددا، هل الطفرة نعمة ام نقمة؟ وهو سؤال قديم جديد: كان في صيغته القديمة محصورا بالنفط ومداخيل النفط على دول الخليج، وكان غرض السؤال تحديد: اين افادنا البترول واين أضر بنا؟

لكن الآن السؤال يتجدد، بعد أن أدى الارتفاع الكبير في اسعار البترول، الى تداعيات مباشرة وغير مباشرة، منها تضخم سوق المال السعودي على نحو غير معتاد ولا سابق، بسبب وفرة السيولة، وشح قنوات الاستثمار.

يكفي ان نعلم، حسبما يذكر تقرير اقتصادي لصحيفة الرياض، ان سوق الأسهم السعودي شهد وثبات كبرى في أعداد العمليات المنفذة وقيمة الأسهم المتداولة. فبينما بلغ عدد الصفقات المنفذة عام 2001، (605) آلاف عملية، كان عدد الصفقات المنفذة عام 2005 أكثر من 46 مليون عملية، خلال فترة لا تزيد عن أربع سنوات. وقفزت قيمة الأسهم المتداولة في السوق من 83.6 مليار ريال عام 2001 إلى 4.1 تريليون ريال في عام 2005، وأصبح السوق السعودي من ضمن أكبر عشرين بورصة في العالم.

هل هذا الوضع سيستمر قدما بلا سقف؟ هناك من يرى ان لاسقف لحركة المال، وان سوق الاسهم هو القناة الوحيدة المتاحة امام السعوديين لاستثمار اموالهم ومضاعفة ثرواتهم، كما قال لي احد كبار المستثمرين، بينما رأى آخرون ان هذا الوضع برمته غير طبيعي، وان الطبيعي هو ان ينخفض السوق إلى مستوى 12 ألف نقطة.

عل كل حال، هذا نقاش تفصيلي، يترك للمتخصصين، ولكن غرضنا هو التأشير على العلاقة المعقدة بين مجتمعات الخليج والثروة المرتبطة بالنفط مباشرة او بطريقة اخرى.

عرب الماء او عرب المركز او عرب الخصب، عيروا عرب الصحراء او عرب الاطراف او عرب الجدب، بالنفط، وكأنه سبّة. وخلق قاموس شتائم نفطي، فولد مصطلح ثقافة البترودولار، والقبيلة النفطية، وانتشر الهجاء النفطي المر، وعلى سبيل المثال, قال نزار قباني، الممثل الابرز للاستشراق العربي الداخلي (عرب ضد عرب) على لسان سيدة تخاطب «كائنا نفطيا»:

متى تفهم؟ متى تفهم؟

بأنك لن تخدّرني.. بجاهك أو إماراتك

ولن تتملّك الدنيا.. بنفطكَ وامتيازاتك

وبالبترول يعبق من عباءاتك

وفي قصيدته الاخرى يقول:

ليس في الحي كلِّهِ قرشي

غسل الله من قريشٍ يديه

هجم النفطُ مثل ذئب علينا

فارتمينا قتلى على نعليه

هذا الهجاء الخارجي لأهل النفط، يحمل نفَسا عنصريا، كما يقول الكاتب الكويتي محمد الرميحي الذي اهتم كثيرا بالمسألة النفطية، وألّف فيها كتبا منذ اكثر من عشرين سنة، وأطلق مصطلح «الاستخلاج» على وزن الاستشراق او الاستغراب، ويعني بالاستخلاج تنميطات عرب الماء لأهل الخليج، بسبب النفط غافلين عن نفط ليبيا والجزائر مثلا!

هذا الموقف الكاره / المحب للنفط، لم يكن مقصورا على أهل الخارج، بل ان هناك حالات ريبة ورعب من «الذئب النفطي» الذي قلب الاوراق، وخض القارورة الاجتماعية، وتدخل في صياغة الطبقات، وخلخل بعض المعايير.

وهنا أستشهد بأبيات شعر يعرفها المتابعون، كتبت بالمحكية البدوية النجدية، على لسان شاعر معبر بصدق عن هذه الروح الرافضة لمعايير وتغييرات النفط، وهو بندر بن سرور، الذي يقول بعد اكتشاف واستخراج النفط من قبل الانجليز ثم الامريكان، او «النصارى»، كما يقول بندر في الأبيات التي أشار إليها الأديب السعودي عبد الله بن خميس:

سلّط على النصراني اللي لقى الزيت...

يعلّ نبع الزيت يعمي عيونه

لولاه تحتاج المراجل شفاليت

... تحتاج شيٍ يقصر النذل دونه

عزمٍ على الفرجة وقطع الخلا الميت...

حتي عيال البوم مايقطعونه

الشاعر بندر في هذه الابيات يدعو الله بأن يصيب بالعمى النصارى الذين تسببوا بخروج النفط في بلاده، لأنه بسبب ذلك اصبح ضعاف الرجال ينافسون أشداء الرجال «الشفاليت» الذين معيار رجولتهم كان ما «قبل نفطي»، كانوا، حسب اعتقاد بندر، رجالا بسبب قيامهم بأشياء صعبة يعجز عنها الانذال، ومنها قطع الفيافي والصحراء «الخلا» الميتة، كناية عن الغزو والشجاعة.

هذا موقف شاعر يعبر عن وعي البادية، وهناك شاعر آخر يعبر عن وعي مقارب ايضا لهذا، لكنه من منظور قروي نجدي، من اهل «بريدة»، حيث يقول:

من ظهر ظهران فاتونا السليم ...

والرشودي راعي الراي التمام!

يقصد انه من منذ أن ظهرت شركة ارامكو العملاقة في مدينة الظهران، شرق السعودية، ومعايير المجتمع الفاضل اختلت. معايير كانت تمثلها أسرة دينية مثل اسرة السليم في بريدة، او اسرة وجاهة اجتماعية مثل اسرة الرشودي...

اذن، فمنذ البداية، كانت العلاقة مع هذا الوافد الضخم، مركبة، ما بين الحرص على احتلابه، وما بين هجائه، ما بين الابحار فيه، وما بين الفرار منه.

بل ان هذا الالتباس ما بين نعمة البترول او نقمته، طال حتى طرفي المعادلة، المستهلكين والمنتجين، وعلى رأس المستهلكين أمريكا ودعوات الاقلاع عن إدمان النفط المتفشية في بلاد العم سام.

وفي فيلم «عرق البلح» للمخرج المصري الراحل رضوان الكاشف، نجد منظرا حزينا، يصور وكلاء توريد العمالة المصرية الى بلدان الخليج «النفطية»، وكأنهم هابطون من الفضاء الخارجي، ونرى نساء الصعيد الجوّاني يقمن مناحة على شباب القرية الذاهبين الى المجهول... بسبب سحر النفط.

وهكذا.. من الداخل النفطي.. ومن الجوار المثقف أو البسيط .. ومن الغرب والشرق .. ومن المستهلك والمنتج.. كان سؤال النفط يحضر دائما.

النفط، كما قال الدكتور محمد الرميحي، ليس عنصرا سلبيا ولا ايجابيا، هو شيء محايد يعتمد على كيفية تعاملنا معه واستثمارنا له. سألته وهل تعتقد اننا تعاملنا معه على الوجه الصحيح طيلة العقود الماضية؟ قال: «لا . فنحن لم نستثمر في الانسان الخليجي، وعلى سبيل المثال فنحن لم نصنع تعليما صحيحا، نعم لدينا أعداد كبيرة من متخرجين ومبتعثين، ولكننا ركزنا على الكفاءة الخارجية للتعليم، لا الكفاءة الداخلية التي تقوم على اكتساب المهارة ومراكمة المعرفة»، ويتابع: «لو احدثك عن مستوى طلابي وطالباتي في العلوم السياسية لأصابك الاحباط !».

هل جمّد النفط تطورنا اذن، واشعرنا أنه بمقدورنا الا نتطور اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، ومع ذلك نتمتع بالثروة؟

اي انه فكّ التلازم بين الاقتصاد والاجتماع والسياسة، بوصف الاقتصاد هو المحرك الخفي للمتغيرات الاجتماعية والسياسية؟ هكذا سألت الرميحي فقال: «ربما، ولكن اتدري ماذا يشبه وضعنا؟ انه يشبه انسانا براق الوجه محمر الوجنات، لا يعطيك انطباعا بمرض، ولكنه مريض من داخله بعلة شديدة، هذا هو وضعنا مع طفرة النفط... نحن لدينا بنية تحتية جيدة، وشوارع على طراز عال وشبكات هاتف ومطارات وجامعات... الخ ، ولكننا نعاني من فقر شديد جدا، علميا وثقافيا وسياسيا».

هل يمكن تلافي هذه الأشياء مع لحظة «الطفرة الثانية» الحالية؟. قال الرميحي: «أنا متشائم، ويكفي ان تعلم على سبيل المثال انه لدينا في الكويت، آخر ميزانية ذهب قرابة 90% منها للباب الاول، اي معاشات الدولة، وليس للتعليم او التنمية».

مرة اخرى ... هل سنتورط بنفطنا وثروتنا، ونضيع هذا السيف الفريد في عتمة الجهل.. وبدل ان نشق به ستر الظلام، نجرح به ايدينا؟!

هل سيصيبنا لهاث التربح السريع من جديد، من دون ادنى نظر للمحل العالي: التنمية الشاملة... لنتبصر ونتأمل قبل أن تنشق علينا أرضنا ثانية بولدين من أولادنا يهاجمان بلحمهما ثروة وطنهما ونفطهما، كما فعل عبد الله ومحمد في بقيق، ومن قبلهما الشاعر بندر الذي لعنه بلسانه.

[email protected]