.. ولكن من هو الآخر؟

TT

عادت مسألة «الحوار مع الآخر» الى واجهة الاهتمام الفكري في الساحة العربية للمرة الثالثة، بعد ان كانت برزت بقوة بعد نهاية الحرب الباردة في سياق استراتيجي معروف الخلفيات، وبعد زلزال 11 سبتمبر الذي اعطاها السمة الثقافية، وأخيرا بعد ازمة الرسوم المسيئة التي كشفت عن حجم القطيعة وتجذر سوء الفهم بين فضائين يبدوان شديدي الاختلاف والتضارب من حيث المحددات الحضارية الجوهرية.

وعلى الرغم ان الصورة العامة التي عكسها الاعلام السيار هي ان الغرب «أمة واحدة» اظهرت حقدها على الاسلام وعداءها له، من خلال انتصارها للرسوم الدنماركية المسيئة وتعاطفها مع الجهات السابّة، الا ان الحقيقة تختلف فعلا عن هذه الصورة القاتمة. فلقد قرأنا لعشرات الكتاب والمفكرين الأوروبيين والامريكان يدينون سب الاسلام والتعرض لرموزه المقدسة وفي مقدمتها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ويعتبرون ان حرية التعبير يجب ان لا تكون تعلة لتشويه الديانات والاستهزاء بها، فحق النقد الفكري الرصين لا يلتبس بالسخرية والشتم.

وفي ثنايا هذا الحوار، يظل سؤال «الآخر» دائما مطروحا وان كان «مسكوتا عنه». فلئن كانت ندواتنا العربية لا تنفك تترى متخذة من موضوع «الحوار مع الآخر» غرضا محوريا للنقاش والمناظرة الا ان تحديد من هو «الآخر» المقصود في هذه الثنائية التي تبدو «بديهية» نادرا ما يتم التساؤل عنه والاعتناء بضبطه وطرحه موضوعيا.

صحيح ان الاجابة الجاهزة موجودة: «الغرب هو الآخر». ولكن ما هو الغرب؟ هل هو فضاء ديني أم ثقافي أم استراتيجي؟ وما هي مكونات هذا الفضاء وحدوده؟

لا شك ان هذه الاسئلة نادرا ما تجد اجابات دقيقة، وانما يتم تناولها انطلاقا من مسبقات ومصادرات هشة، لا تصمد للتمحيص. فمن الواضح ان الدين لم يعد يشكل المقوم الحضاري الاساسي في هوية المجتمعات المدعوة بالغربية، كما ان الثقافة التي تلتبس في هذه المجتمعات بالخصوصية القومية ليست محددا جامعا، وليس العامل الاستراتيجي الذي يرتبط بدائرة المصالح وضوابط العلاقات الدولية بمرتكز لهوية حضارية منسجمة.

صحيح ان جذور مفهوم الغرب تعود للعصور الوسيطة، وترتبط بانقسام الامبراطورية الرومانية والكنيسة المسيحية، بيد ان الامر يتعلق بانقسام داخل العالم المسيحي نفسه بين شرق وغرب، وقد تحول المفهوم لاحقا ـ في عصور الانوار ـ الى أساس هوية للمجتمعات الاوروبية الحديثة بالعمل على اقصاء العامل الديني الذي يشكل قنطرة التواصل مع الرافد الشرقي، واعادة الاعتبار للموروث اليوناني ـ اللاتيني كأساس تاريخي لهوية الغرب الحديث.

وفي الخمسينات تمت اعادة صياغة الغرب في اتجاهين:

ـ استراتيجي بدمج الولايات المتحدة التي اصبحت محور الائتلاف الجيوسياسي الجديد المناوئ للمعسكر الشيوعي وباقصاء الفضاء الاوروبي الشرقي.

ـ ثقافي ببلورة مفهوم «الحضارة اليهودية ـ المسيحية» الذي اعتبره جورج قورم «انقلابا ثقافيا قسريا»، بما يعني في الحقيقة عزل الاسلام من التقليد التوحيدي الكتابي الذي يمثل خاتمته وامتداده.

لقد بين المؤرخ الامريكي ريتشارد بولويت في كتاب هام صادر مؤخرا بعنوان «الحضارة الاسلامية ـ المسيحية: ماضيها ومستقبلها» هشاشة هذا التصور الاقصائي غير الموضوعي علميا.

وقد كشف بولويت ان المسار التاريخي للمسيحية الغربية مرتبط عضويا بمسار الاسلام (على الاقل الى حد القرن الرابع عشر) بحيث يمكن ان نعتبرهما «صيغتين لنسق اجتماعي ـ ديني مشترك، على غرار المسيحيتين الارثوذكسية والغربية».

ولئن اختلف المساران مع بداية عصور النهضة والحداثة في الغرب، الا ان هذا الاختلاف لا ينجم عنه الصدام ضرورة. وقد اعتبر بلويت ان ازمة العالم الاسلامي ليست دينية أو عقدية، وانما هي ازمة «سلطة دينية» ناجمة عن غياب مرجعية فقهية وعقدية ينعقد عليها الاجماع، وليس للتيارات المتطرفة اي صدقية حقيقية في الوسط الديني على عكس الصورة السائدة.

ان ما نريد ان نستخلصه من هذا التصور النقدي لمفهوم «الغرب» هو ان هذا المصطلح ليس في واقع الامر سوى صياغة تمثلية ايديولوجية، ولا يمكن ان يتخذ أداة موضوعية للتحليل العلمي الدقيق.

فلقد علمتنا المقاييس الجديدة للعلوم الانسانية ان «الآخر» هو دوما من انتاج الهوية باعتباره وجهها المختلف، والهوية ذاتها ليست معطى بديهيا، بل هي في آن واحد حصيلة مسار تاريخي واختيار قصدي.

ولذلك اعتبر عالم الانتربولوجيا الفرنسي الكبير كلود ليفي شتراوس انه عندما كان يكتشف المجتمعات الامريكية الجنوبية التي خصص لها كتبه الاولى، انتبه الى ان الاسلام ليس بالغريب على حضارته التي يلتقي معها في الاساسيات والثوابت، أما الغرابة كلها فهي في هذه المجتمعات ذات التركيبة الثقافية المغايرة مطلقا.

ان ما نشهده حاليا هو تشكل صياغات جديدة للآخر وفق استراتيجيات جديدة، تتخذ أحيان شكل التصنيفات العلمية، وتبدو أحيانا أخرى في شكل المصادرات الاعلامية التي هي مطلقات الثقافة الراهنة. ومن الصياغات المطروحة «الهوية المتوسطية» التي تحدد اطارا ائتلافيا جديدا بين الثقافتين الاوروبية والعربية من منظور لا تخفى خلفياته السياسية والاستراتيجية القريبة والبعيدة.

ومن هذه الصياغات المطروحة تكريس مفهوم «النسق الكتابي» (الدايانات السماوية التوحيدية) في مقابل «الديانات غير الالهية الآسيوية». ويتعلق الامر بمسعى انتربولوجي، لا ينفك محمد أركون يشدد عليه لفرض تشريع تطبيق مناهج تأويل النص الديني التي طبقت على النصوص اليهودية والمسيحية على النص الاسلامي.

ان الحوار مع الآخر يصطدم اذن بهذه الاشكالية المعرفية التمثلية المتعلقة بتحديد «الآخر» الذي هو صياغة خطابية، ترتبط عضويا بنمط النظر اليه. فهذه النظرة سابقة على تعريفه، فيما يشكل مفارقة عصية نادرا ما يتم التنبيه اليها.

وما تكشف عنه حاليا أغلب ندوات الحوار مع الآخر التي تتم في العالمين الغربي والاسلامي، هو اما تحويل الحوار الى مونولوج (أي حوار مع الذات) بحيث يكون الآخر هو نسخة من الـ أنا (على شكل بعض المفكرين المتغربين الذين يحتفى بهم في الغرب كممثلين للفضاء الاسلامي)، أو اختزال للآخر في الغربي المقصي الذي لا صلة تصل به (على شكل الاصولي المتطرف الراديكالي).

وهكذا يعجز سجن الهوية عن اكتشاف الآخر.