.. وماذا عن الأصولية شرقا وغربا..؟

TT

كان علم الانتربولوجيا وعلى رأسه كلود ليفي ستروس قد ساهم في تخفيض اهمية الحضارة الغربية وجعلها نسبية بعد الحرب العالمية الثانية بسبب فظائعها بما فيها المحرقة اليهودية. واصبح يطبق مصطلح الحضارة على اي نظام للعيش بدائيا كان أم متقدما. وعاب عليه الكثيرون هذه النظرة النسبوية، لا النسبية، للحضارات. ورأوا فيه نوعا من الانتقام من الحضارة الغربية التي انحرفت عن مبادئها التنويرية اثناء المرحلة الفاشية والنازية وعاملته كيهودي لا كانسان فرنسي مثله مثل غيره. فالواقع ان نظام الطالبان ضمن هذا المنظور النسبوي، ان لم يكن العدمي والتبخيسي للحداثة، يصبح حضارة مثله في ذلك مثل النظام السويسري، او الهولندي، او الاوروبي بشكل عام!! ولكن لحسن الحظ فإن مؤسس البنيوية في الفكر الاوروبي المعاصر تراجع عن هذه الحماقات أخيرا واصبح يعترف للحضارة الحديثة ببعض المميزات: كالحريات الفردية، والتسامح الديني، والتعددية الفكرية والسياسية، الخ.

والواقع ان الكثيرين من كتَّاب الاصولية في العالم العربي استخدموا فكره بالاضافة الى فكر فوكو ومدرسة فرانكفورت، بل حتى هيدغر ونيتشه كحجة من اجل تدعيم آرائهم وضرب الحداثة التنويرية او النيل منها عن طريق اعتبارها احدى تجليات الحضارة الممكنة وليس كل الحضارة. بل وبالغوا في تسفيهها الى حد انها لم تعد حضارة واصبح التعصب للهوية الخصوصية هو الحضارة حتى ولو ادى الى نبذ الآخرين وتكفير معتقداتهم وآرائهم. هكذا نلاحظ ان الامور انقلبت عاليها سافلها في مرحلة من المراحل: اي في مرحلة سيطرة اليسار الغوغائي او السطحي الهش على الثقافة الغربية والعربية في آن معا.

ولكن هذه المرحلة انتهت الآن بعد ان انكشفت مخاطر التعصب للخصوصية القومية او للهوية الدينية ايا تكن. الآن اصبح الجميع مقتنعين بان هناك فرقا بين الحضارة والهمجية، بين التسامح الديني والتعصب الاعمى، بين الاستبداد السياسي والانظمة الديمقراطية. فبعد ان حصلت عمليات التطهير العرقي او الطائفي في عدة مناطق من العالم ما عاد احد يساوي بين العصور الوسطى والعصور الحديثة، او بين الفهم الظلامي القديم للدين والفهم المستنير والعقلاني له. ضمن هذا المنظور يفقد مصطلح صدام الحضارات معناه وجدواه. فالصراع الاساسي الجاري حاليا هو بين الحضارة الحديثة ككل وبين الاصوليات المتعصبة والدموية ايا تكن. وبالتالي فلا يوجد صراع بين حضارات مختلفة وانما صراع بين الحضارة الكونية والانسانية من جهة، وبين الجهالات والظلاميات الحاقدة على التقدم البشري من جهة اخرى. وبهذا المعنى فان الحضارة تشمل ليس فقط الغرب الاوروبي ـ الاميركي، وانما كل الشرائح المستنيرة التواقة الى التقدم في العالم العربي ـ الاسلامي، والعالم الافريقي، والآسيوي، واميركا اللاتينية، الخ. وبهذا المعنى نجد قوى حاقدة على الحضارة حتى داخل الغرب نفسه. واقصد بها قوى اليمين المتطرف العنصري الذي يعتقد بان هناك شعوبا خلقت للحضارة هي الشعوب الاوروبية، وشعوبا اخرى خلقت للجهل والتخلف هي الشعوب الاسلامية والعربية. بهذا المعنى يوجد صراع اصوليات لا صراع حضارات. فالوزير الايطالي الذي وضع الصور الكاريكاتورية على قميصه لا يقل تعصبا عن الاصوليين الموجودين في الجهة المضادة. ولحسن الحظ فان بيرلسكوني اقاله منصبه وبالتالي فالصراع الجاري حاليا ليس بين الشرق والغرب، ولا حتى بين العالم الاسلامي والغرب، وانما هو بين الحضاريين في كل المجتمعات وبين المتعصبين لهوياتهم الخصوصية الضيقة في كل المجتمعات ايضا، ولهذا السبب فسوف تسقط اطروحة برنارد لويس وصموئيل هانتنغتون عن صراع الحضارات لأنهما لم يأخذا هذا البعد بعين الاعتبار. لكن يبقى صحيحا القول بان نسبة الجهل والتعصب في العالم الاسلامي تبقى اكبر بكثير مما هو عليه الحال في العالم الغربي لسبب بسيط: هو اننا لم نشهد بعد حركة الاصلاح الديني والتنوير الفلسفي كما حصل في اوروبا على مدار القرون الاربعة المنصرمة. هذه حقيقة واقعة لا يفيدنا في شيء انكارها. على العكس فان ذلك يؤدي الى تكريس تخلفنا لأنه يمنعنا من رؤية الأمور كما هي وبالتالي يحول بيننا وبين تحديد الأولويات والمهام الملقاة على عاتقنا. اني اعرف ان هذا الكلام يزعج الكثيرين من المكابرين والمغالطين والسوفسطائيين في الساحة العربية والاسلامية. ولكني مضطر الى قوله من اجل الحقيقة، ثم من اجل تقدم الشعوب العربية والاسلامية ذاتها. فالمفكر النقدي الصريح هو الاحرص على انقاذ شعبه من المفكر الممالئ والممالق الذي يلعب على وتر العصبيات الشوفينية او يدغدغها.

هل يعني ذلك انه لا توجد اية نواقص او اخطاء في الحضارة الغربية؟ هل يعني ان الحداثة معصومة وان نقدها ممنوع؟ بالطبع لا. ولكن قبل ان ننقد النواقص ينبغي ان نعترف بالايجابيات والمكتسبات وفي طليعتها حرية التفكير والنقد والتعبير، ويمكن ان نضيف اليها بالطبع دولة القانون والمؤسسات لا دولة المحسوبيات والرشوة والفساد.

ويمكن ان نضيف اشياء اخرى كثيرة تنعم بها المجتمعات الاوروبية وتحرم منها المجتمعات العربية والاسلامية: كالضمان الصحي، والضمان الاجتماعي، والمساواة بين المواطنين، وتجاوز المرحلة الطائفية والعشائرية والمذهبية التي لا تزال تمزق الشعوب العربية وتهدد وحدتها الوطنية. اكتب هذه الكلمات على وقع ما حصل من اشياء خطيرة في العراق بالامس القريب. من لا يرى هذه المكتسبات التي لا تقدر بثمن يكون اعمى او مكابرا لا خير فيه!

والواقع انه لولاها لما حاول آلاف المهاجرين الوصول الى الشواطئ الاوروبية حتى ولو غامروا بأنفسهم وغرقوا في البحر! ولولاها لما اختار مئات المثقفين العرب والمسلمين حياة المنفى في باريس او لندن هربا من الاستبداد والتعصب منذ العصر العثماني وحتى اليوم. وبالتالي فمن السهل ان ننتقد شطط الحضارة الغربية وبخاصة فيما يتعلق بالشذوذ الجنسي، او التطرف في الاباحية والشهوات والملذات. وهو نقد مشروع في رأيي، ولكن لا يمكن اختزال الحضارة الغربية كلها الى مثل هذه الظاهرة التي تبقى هامشية على الرغم من كل شيء. هناك نقد آخر اشد خطورة يمكن توجيهه الى هذه الحضارة الا وهو: الانانية والتقوقع على الذات، ويمكن ان نلومها ايضا لانها لا تريد من المسلمين ان يحققوا في اربع سنوات ما حققته في اربع قرون! فتغيير برامج التعليم او تجديد العقليات ككل لا يتم بين عشية وضحاها. ونلومها ايضا لان برنارد لويس المقرب من بول ولفويتز والمنظر الاساسي للمحافظين الجدد لا يرى اي ظلم وقع على الفلسطينيين بانشاء دولة اسرائيل عام 1948!! نقول ذلك على الرغم من ان الزمن تجاوز هذه المسألة الآن واصبحت قضية السلام والاعتراف المتبادل بين الطرفين هي الاساسية. وبهذه المناسبة لا املك الا ان ابدي اعجابي بالخطاب التاريخي الذي القاه الرئيس محمود عباس أخيرا. وكل ما نأمله هو ان يتعاون معه العقلاء من قادة حماس من اجل مصلحة الشعب الفلسطيني واختصار آلامه التي زادت عن الحد، ثم من اجل مصلحة الشعوب العربية الاخرى ايضا لان النهضة العربية المقبلة مرتبطة بحل هذا الصراع المدمر.

فاستمراريته لم تعد في صالح احد. ولكن هنا ايضا ننتظر الغرب لكي يلقي بكل ثقله من اجل الحق والعدل. فهل يفعلها هذه المرة يا ترى؟ هل يحق لنا ان نحلم مجرد حلم؟