الهدنة المتوقعة والحل المستحيل

TT

الى اين تسير وتيرة الاحداث على الجبهة الفلسطينية ـ الاسرائيلية؟

سؤال ليس من السهل الاجابة عليه، في وقت تشهد فيه المنطقة تحولات متسارعة واتصالات ومبادرات كثيرة ومتضاربة، لم ينفذ منها للسطح سوى القليل النادر.

ففي الان الذي شهد العدوان الاسرائيلي على الاقاليم الفلسطينية المحتلة تطورا نوعيا بدخول القوات الاسرائيلية الى المنطقة «أ» لاول مرة بعد توقيع اتفاقات اوسلو، حيث اشتدت كثافة الضربة العسكرية، مخلفة عشرات الضحايا والخسائر المادية، واستهدفت الاجهزة الامنية والادارية الفلسطينية والقيادات العسكرية والسياسية، بدأت تلوح في الافق ملامح مشاريع ومبادرات لتهدئة الوضع واستئناف المفاوضات السلمية المتوقفة بين الجانبين.

ففضلا عن اللقاءات المتواصلة (واغلبها عبر قنوات سرية) بين المسؤولين الفلسطينيين والاسرائيليين، نشير الى عودة الادارة الامريكية الجديدة للساحة من خلال اللقاءات بين الطرفين التي تمت برعاية سفير الولايات المتحدة بتل ابيب مارتين انديك الذي كان على دراية تامة بتطورات وملابسات العملية السلمية قبل تعثرها. كما يتعين الانتباه الى المبادرة الاوروبية التي تمخضت عن زيارتي الملك عبد الله والرئيس مبارك لواشنطن، ولقيت تجاوبا فلسطينيا. وتقوم هذه المقاربة على جملة افكار من ابرزها: وقف العنف في المناطق المحتلة بانهاء سياسة الحصار والاغلاق التي تتنهجها قوات الاحتلال الاسرائيلية، وتنفيذ مقررات مؤتمر شرم الشيخ، والعودة لمفاوضات التسوية للوصول الى صيغة الحل النهائي المنشودة.

ومن الجلي ان رئيس الحكومة الاسرائيلية رافض لهذه الافكار، وقد صرح بوضوح في مقابلته الاخيرة مع صحيفة «هآرتس» (12 نيسان ـ ابريل) بتمسكه بمواقفه المتشددة السابقة، وعلى رأسها: اشتراط وقف الانتفاضة للعودة الى طاولة المفاوضات، وعدم قبول تفاهمات كامب ديفيد ـ طابا، ورفض اخلاء اي من المستعمرات اليهودية في الضفة وغزة، ورفض التفاوض حول القدس، وعدم التنازل عن اي شبر منها، مع التهديد المعلن بتكثيف الاستيطان والاحتفاظ بالجولان وموارد المياه واجزاء واسعة من الضفة وقطاع غزة في اي تسوية مرتقبة. وامام هذه المواقف، يبدو من الواضح ان مسار التسوية لن يستأنف في المدى المنظور، وان كانت عدة مؤشرات تبين ان الاطراف المختلفة اصبحت مستعدة لقبول هدنة مؤقتة واتفاقات تهدئة محدودة وجزئية.

فمن الوجهة الاسرائيلية، ظهر خلال الاشهر السبعة السابقة ان القضاء على الانتفاضة بالوسائل العسكرية والطرق الارهابية ليس مجديا. وان كان شارون قد بنى برنامجه الانتخابي على التعهد بانهاء انتفاضة الاقصى في مدة قصيرة وبالطرق «الملائمة»، الا ان حربه الشرسة على المدن الفلسطينية لم تؤد لنتيجة، ولم تفلح في تقويض البنية التحتية للمقاومة، وانما اكتفى بنقل الصراع الى الاجهزة الفلسطينية الرسمية في محاولة يائسة لتعديل صورة المواجهة من قمع ارهابي لانتفاضة شعب اعزل الى منازلة بين جيشين «متكافئين».

وكما كتب بروشليمي شالوم في صحيفة «كول هزمان» (6 ـ 4 ـ01) فلقد «تطلب الامر اقل من شهر واحد لكي يفهم ارييل شارون ان الصراع مع الفلسطينيين لم يكن وليس له حل عسكري.. ومنذ ما قبل الانتخابات وفي الجوهر حتى اليوم، يعلن شارون انه لن يدير مفاوضات تحت النيران، ولكنه كان يعرف على الدوام ان المفاوضات مع الفلسطينيين هي امر افضل من استمرار حالة الحرب التي لا يستطيع ان يكسب منها شيئا». وامام هذا الافق المسدود، بدأت الحكومة الائتلافية في اسرائيل تدعو لاتفاق مرحلي بديل عن خطة التسوية، مع التلويح بالاستعداد لقبول دولة فلسطينية مستقلة مع تأجيل حسم الاشكالات العالقة (مثل ملفات القدس واللاجئين والمياه والحدود) الى اجل غير مسمى. وفي حالة الرفض الفلسطيني لهذه المبادرة، تهدد حكومة شارون بفرض خطتها للتسوية بانسحابها من المدن الفلسطينية المكتظة بالسكان مع ضم المستعمرات وربطها جغرافيا باسرائيل، مما سيفضي الى اقامة وضع جديد يتحول الى امر واقع لا سبيل لتعديله.

اما الجانب الفلسطيني الذي يتعرض لحرب شرسة وقاسية، فيستشعر خطورة الموقف، وعدم قابليته للاستمرار، ويرى ان الضحية الاولى للعدوان هي البنية الادارية والسياسية للسلطة الوطنية التي هي ثمرة مفاوضات التسوية، وتشكل معادلة مؤقتة بين خيار المواجهة العسكرية الذي نبذته منظمة التحرير الفلسطينية ومشهد الدولة المستقلة الذي هو الافق المرتقب للعملية السلمية. ومن هنا صعوبة واشكالية الموقف الفلسطيني الذي يتعرض لضغوط هائلة عربيا وامريكيا واوروبيا للوصول الى اتفاق هدنة مع الجانب الاسرائيلي بغية استئناف مباحثات التسوية المتوقفة، في الوقت الذي بدأت فيه موازين القوى في الساحة الفلسطينية تميل لصالح حركات المقاومة الاسلامية التي تتبنى خيار المواجهة المسلحة، والعملية الاستشهادية على الطريقة اللبنانية بديلا عن الانتفاضة السلمية الاحتجاجية.

اما ادارة الرئيس بوش التي آثرت في البداية الابتعاد عن الساحة الشرق اوسطية، فقد وجدت نفسها مرغمة على العودة للدور نفسه، اي دور الراعي والمسهل، حتى ولو وافقت شارون في خطته العدوانية وشروطه المتصلبة لاستئناف عملية التسوية. وكما نفذ من مبادرة السفير الامريكي انديك، فان الولايات المتحدة حريصة على بلورة شراكة امنية فلسطينية ـ اسرائيلية، يكون من شأنها اعادة الثقة بين الطرفين، وبالتالي تهيئة الارضية الملائمة لدفع مسار التسوية.

ان استحضار هذه المعطيات، يسمح لنا بالتكهن بامكانية التوصل في المدى القريب الى اتفاق هدنة وتهدئة، ان سمح باسترجاع الجسور المقطوعة بين حكومة شارون والقيادة الفلسطينية، فإنه لن يحل اياً من الاشكالات الجوهرية التي فجرت انتفاضة الاقصى المرشحة للتجذر والاستمرار.