إيران: تفاصيل الصراع بين مدرستين للتفكير

TT

في أواخر السبعينات، وبينما كانت سحب الثورة تتجمع في السماء الإيرانية، قرر التلفزيون الرسمي ان يوفر مجالا تتمكن من خلاله الأفكار المتنافسة، التي تتسم بالعمق، من التعبير عن نفسها وأن يكون ذلك في سياق محدود. وأدى ذلك الى برنامج اسبوعي حمل عنوان «شرق أم غرب؟».

ولم يفسر أحد، العنوان ولا سبب اختياره. ولكن الدليل الضمني يشير الى أن ايران كانت قد وصلت الى مفترق طرق، وتعين عليها ان تختار بين التوجه شرقا، أي ان تصبح اكثر شبها بالدول العربية أو الاسلامية الأخرى، او تسريع سعيها الذي دام 100 عام، لكي تصبح اكثر شبها بدول أوروبية حديثة.

وضمت مجموعة النقاش مشاركا بارزا واحدا من كل طرف، وبالتالي وفرت لكثير من الأنصار الآخرين مواجهة بعضهم بعضا كل أسبوع. وخلال اشهر عدة كان عشرات الكتاب والفلاسفة والعلماء والمؤرخين من خلفيات مختلفة قادرين على مخاطبة الملايين من مشاهدي التلفزيون للمرة الأولى.

وقد جرى اختياري كعضو بارز في الطرف الذي يدعو الى الاستفادة من الثقافة الغربية.

وكانت حجتي أنه ليس بوسع ايران الحفاظ على شخصيتها، بما في ذلك الثقافة الاسلامية، بدون تبني سياسة تعددية واقتصاد رأسمالي. وبكلمات أخرى، فإننا اذا أردنا ان نبقى محافظين على أنفسنا فإن علينا أن نتغير.

وفي احد البرامج قدم أستاذ فلسفة كبير السن باعتباره يقف الى جانبي. كان اسمه أحمد فرديد، وقد انتهى الى ان يكون مجادلا مثاليا وصاحب البديهية الأكثر حدة في الامبراطورية الفارسية.

وبعد تسجيل البرنامج دعاني فرديد الى بيته، وهو شقة متواضعة استأجرها من أحد الصحفيين العاملين في صحيفتنا.

وما أن جلسنا حتى كان وجه فرديد متجهما، وقال: «أعتقد انني تجاوزت حدودي. اذا ما بث ذلك البرنامج فسأتعرض الى الموت». وعندما سألته عم يتحدث، ذكرني بالازدراء الذي صبه على رجال الدين، واصفا اياهم باعتبارهم «قبيلة جاهلة اكثر اهتماما بالمال منهم بالدين».

وحثني على ان اطلب من رضا قطبي، الذي كان مديرا للتلفزيون يومئذ، السماح بشيء من «استخدام المقص». وبعد كثير من الجدل وافق قطبي، الذي امتنع عن استخدام المقص بأي شكل كان، على السماح لنا بإعادة تسجيل برنامج جديد. وفي هذه المرة كان فرديد حذرا، ولم يشر الا الى عمل رجال الدين مع الفلاسفة «سعيا الى اجابات عن أسئلة يطرحها المجتمع».

وفي ذلك الوقت، وكان أواخر عام 1977، لم يكن أي منا يعرف انه في غضون اقل من سنتين، ستكون ايران تحت حكم رجال الدين، ولا تتجه شرقا أو غربا، وإنما نحو مأزق تاريخي.

غير انه اذا ما كانت موهبة فرديد الفلسفية قد برهنت على خطأ، فإن قدرته السياسية كانت قد تحسست الأشياء الصحيحة. فقد دعا رجال الدين والفلاسفة الى اقامة شراكة، وبعد فترة قصيرة من تولي الخميني السلطة رأى تحقق رغبته.

فقد كان من أول أفعال النظام الجديد اغلاق كل الجامعات لمدة سنتين، حتى يمكن اعادة كتابة الكتب الدراسية بـ«طريقة اسلامية»، وطرد المدرسين والطلاب غير المرغوب فيهم. ومن أجل تنفيذ عملية التطهير أسس الخميني ما سمي المجلس الأعلى للثورة الثقافية الاسلامية، الذي تشكل من عدد من رجال الدين وعدد من «المفكرين» من غير رجال الدين. وكان فرديد، باعتباره ابرز استاذ فلسفة يقف الى جانب الخمينيين، نجما بين أعضاء المجلس.

وبينما كان المجلس العلمي يتقدم في طريق تطهير المؤسسة الأكاديمية، حوّل نفسه الى ناد فلسفي سرعان ما انقسم فيه رجال الدين وأقرانهم من خارج وسطهم الى معسكرين.

وسمي أحد المعسكرين «الهايدجريين»، نسبة الى مارتن هيدجر، الفيلسوف الألماني المؤيد للنازية، والذي زعم الوجوديون انه سلفهم الروحي. وكان فرديد، الذي وصف نفسه باعتباره «من أنصار هيدجر» بطلهم، فيما نقل رضا دافاري الشاب نصير فرديد راية الهايدجريين الى وسائل الاعلام.

وسمي المعسكر الآخر «البوبريين» نسبة الى الفيلسوف البريطاني كارل بوبر، الذي كرس حياته لمقارعة التوتاليتارية.

وفي البداية تجمع البوبريون حول مرتضى مطهري، رجل الدين المتوسط المكانة الذي كان قد عمل في المجلس العالي للفلسفة التابع للامبراطورة فرح قبل الثورة. وعندما اغتيل مطهري، على يد الهايدجريين المتشددين حسب المزاعم، اختار البوبريون فيلسوفا هاويا من غير رجال الدين اسمه عبد الكريم سورش، ليكون المتحدث الرئيسي باسمهم. وكان سورش، الصيدلي الذي درس في بريطانيا، قد عين أمينا عاما للمجلس.

ولا حاجة بنا الى القول انه لا «الهايدجريون» ولا «البوبريون»، كانوا يستحقون ألقابهم. فقد قبل الطرفان زعم الخميني بالحق في الحكم باسم «الامام الغائب»، وهو ما لم يكن لهايدجر ولا لبوبر أن يفهماه.

فقد كان الهايدجريون مهتمين بصورة رئيسية بطرح اية صيغة من الديمقراطية، باعتبارها مناهضة للاسلام ومناهضة للفلسفة. فقد ادعى دافاري، على سبيل المثال، ان سقراط حكم عليه بالموت بسبب معارضته الديمقراطية، وان نصيره أفلاطون كان مؤيدا لـ«حكم المختارين» الذي كان يعني، في حالة ايران، حكومة رجال الدين.

واكد البوبريون على أن حكم رجال الدين ينبغي أن يكون خاضعا للاقرار العام في انتخابات، ولكنهم لم يكونوا مستعدين للمضي في السماح لأي مواطن بالترشيح في الانتخابات. فقد تعين على جميع المرشحين ان يكونوا موالين للنظام. كما لم يكونوا مستعدين للاعتراف بأن حكومة رجال الدين عرضة لأن تتحول الى التوتاليتارية باسم الدين.

وحتى عام 1989 كان الهايدجريون القوة الفلسفية المهيمنة داخل المؤسسة الخمينية. وقد اشير الى ان رئيس الوزراء في حينه مير حسين موسوي ووزير العدل في حينه عبد الكريم أردبيلي، رجل الأعمال الذي اصبح رجل دين، كانا من الهايدجريين.

وبدأ البوبريون تفوقهم في سنوات التسعينات، وأفلحوا في الظهور كمجموعة مهيمنة داخل النظام في عام 1997، عندما فاز أحد داعميهم، وهو محمد خاتمي، رجل الدين الأدنى مرتبة، بمنصب الرئيس على منافسه آية الله علي اكبر ناطق نوري، مرشح الهايدجريين.

غير انه في الصيف الماضي عانى البوبريون من هزيمتهم الكبرى، عندما فاز بالرئاسة مرشح الهايدجريين محمود احمدي نجاد. وقد سلط ذلك الفوز الأضواء على آية الله محمد تقي مصباح يزدي، أحد طلاب فرديد الموهوبين، وأكثر رجال الدين شهرة في أوساط الهايدجريين. ومصباح يزدي هو «المرشد الفكري» لأحمدي نجاد.

وقد يكون مفاجأة بالنسبة للأجانب، ولكن خلال السنوات الـ27 الماضية، ظل الجدال الفلسفي في الجمهورية الاسلامية يدور حول اساءة فهم الفيلسوف الألماني المؤيد للنازية من ناحية ، واساءة فهم أكبر للفيلسوف الليبرالي البريطاني من ناحية أخرى.

ولم تستطع ثلاثة عقود تقريبا من الحكم الاسلامي، ان تخلق فيلسوفا اسلاميا واحدا. وحتى مصباح يزدي، الذي يزعم مؤيدوه انه «الفيلسوف الاسلامي الأكثر اهمية خلال القرنين الماضيين»، ليس لديه الكثير ليضيفه الى تكراره اساءة فهم فرديد للفيلسوف هايدجر.

ويزعم الهايدجريون ان كل مجتمع يجب ان يشخص النخبة التي يمكن ان توفر له افضل حكومة. وفي حالة الاسلام تتألف تلك الحكومة من علماء الدين، وما أن يتأسس «الحكم العادل» يتعين على المجتمع الا يسمح لأية معارضة في الرأي، ويتعين، بدلا من ذلك أن يعبئ كل الطاقات ضد الأعداء الداخليين والخارجيين.

كما ورث الهايدجريون جرعة من معاداة السامية من الفيلسوف الألماني نفسه، ومن مريديه الايرانيين. فمنذ انتخاب أحمدي نجاد هاجم الهايدجريون البوبريين باعتبارهم «أشخاصا ساذجين خدعهم يهودي مثير للفتن»، في اشارة الى حقيقة ان بوبر كان يهوديا بالولادة.

ويسمح البوبريون بتنوع في وجهات النظر، بل وحتى «قراءات متعددة للنصوص المقدسة». ولكنهم يرفضون أيضا أية امكانية لتغيير بنى الدولة الاسلامية، ناهيكم من اخضاع الدين لموقف انتقادي.

وقبل عامين قام يورغن هابرماس، أكثر الفلاسفة الألمان الأحياء عصرية، بزيارة الى ايران بدعوة من وزارة الارشاد الاسلامي، وفوجئ بهيمنة «فلسفات غربية مساء فهمها» في الفكر الايراني.

حسنا، ربما آن الأوان ان يبدأ الإيرانيون تأمل أنفسهم.