ديمقراطية الفوضى الخلاقة

TT

لم يعد المرء يعرف، وهو يشاهد على الشاشة الصغيرة أعمال العنف في العراق ومناظر الموت والدمار، ما إذا كان المنظر إعادة لما حدث في اليوم السابق أو تصويراً لعنف قاتل جديد.

ولم يعد يملك إلا أن يتساءل ما إذا كان هذا الانقسام الدامي بين شيعة وسنة بعد سنوات كان يبدو فيها أن الفتنة قد نامت، وهل بوادر الحرب الأهلية المدمرة ، مثلها مثل أبو غريب مظهر من مظاهر الديموقراطية التي تذكر الولايات المتحدة أنها جاءت إلى العراق بدباباتها وطائراتها وعرباتها المصفحة وعملائها وأوهامها أو مؤامراتها لتفرضها حتى تشع بنورها ـ أو ظلالها على المنطقة كلها... وهل هي تطبيق لما أسمته وزيرة الخارجية الأميركية «الفوضى الخلاقة»، فتحقق نصف أملها أو نبوءتها أو خطتها، وهو الفوضى المدمرة، دون أن نرى شيئاً خلاقاً في عملية تدمير العراق وتأليب جزء من شعبه على الآخر نتيجة لسياسات خرقاء تؤدي، على حد قول صديق من دولة مشرقية ، إلى احياء الدولة الفارسية وإزكاء نار تنافسات وصراعات، كان المتصور أنها حسمت ولم تستطع حروب صدام الخرقاء أن تعيدها إلى الوجود.

وقد ذكر لي هذا الصديق وغيره من العالمين ببواطن الأمور بالإضافة إلى ظواهرها، أن النفوذ الإيراني في لبنان أصبح أقوى من أي نفوذ خارجي آخر، وأن ما حدث في أفغانستان وفي العراق مهد الطريق لإضعاف السنة في المنطقة وأحيا الفتنة النائمة.

كما أن الموقف المخزي «للديمقراطية» الأميركية من نجاح حماس في فلسطين بعد انتخابات حرة ونزيهة، يفتح الباب أمام دعم ايراني ينقذ الفلسطينيين من العقوبات الاقتصادية الجائرة التي تطبقها اسرائيل والولايات المتحدة، وتدعو غيرها إلى مثل موقفها المخزي الذي يؤكد أن الدعوة إلى الديموقراطية هي دعوة مزيفة وانتقائية، وتخفي وراء الأكمة ما تخفيه وما أصبح مفضوحاً، وان كانت نتائجه غير ما تصوروا.

ولست قطعاً من المنادين بصراع عربي ايراني، بل على العكس فإني أرى أن تصالحاً على أسس سليمة مطلوب، بل مستحب ومفيد، ولكن المواقف الأميركية والاسرائيلية هي التي تعمق الشق والشك ربما عن جهل وربما عن تخطيط خبيث وربما عن كليهما، وهو ما يميز سياسة المحافظين الجدد وتلاميذهم أو أساتذتهم، وهي سياسة لا أجد ولا يجد من يفضلون عدم الاستسلام دائماً إلى تفسير المؤامرة أي تبرير أو تفسير آخر لها.

وقد بدأت هذا الأسبوع في قراءة مذكرات السفير بريمر ـ ديكتاتور العراق الأميركي ـ عن السنة السوداء التي حكم فيها العراق، والذي رأيته خلال تلك الفترة يتحدث في مؤتمر دولي باسم العراق وهو منتفخ زهواً وتكبراً. ونفضح كل صفحات الكتاب بهذه الروح، مضافاً إليها جهل تام بحقيقة الأوضاع في الدولة العريقة التي تحكم فيها، بمساندة من هم في واشنطن أجهل منه، فأوصل العراق إلى الوضع الحالي الذي طالما حذر منه العقلاء.

ولقد أجرت الاذاعة البريطانية استطلاعاً للرأي في عدد كبير من الدول، أعلنت بعده أن غزو الولايات المتحدة للعراق قد ترتب عليه زيادة الارهاب.

وليس هذا غريباً، فالقوات العراقية بما أثارته من مشاعر مقاومة لغزو أجنبي مهين، سمحت لعناصر اجرامية بأن تعبر حدوداً أهملتها، فتسللت لتمتطي جواد المقاومة الحقيقية وتنشر العنف وتزيد الفوضى، كما أن الولايات المتحدة بمحاولتها اللعب على الاعتبارات الطائفية قد أدت إلى تعميق المخاوف وتوسيع الخلافات إلى الحد الذي رأينا فيه توالي عمليات تدمير الأماكن المقدسة السنية والشيعية في احياء لمآسي فتنة ما زالت جراحها مؤلمة، واشعال لحرائق مدمرة.

وأعتقد أنه من العاجل أن تستأنف جامعة الدول العربية الجهد الممتاز الذي بدأته لتحقيق مصالحة بين الأطياف والأطراف العراقية، والذي حقق في مرحلته الأولى بعض النجاح، وقد أصبح من الملح الآن، رغم الظروف الدرامية بل بسببها، أن يتواصل هذا الجهد ولا تترك الساحة فسيحة أمام المفسدين وأمام الأميركيين الذين أثبتوا فشلاً ذريعاً إذا افترضنا حسن النية، أو خبثاً شديداً سواء من لدنهم أو بدفع من غيرهم الذين لا نستطيع مهما حاولنا أن نبعد شبحهم أمام أو وراء أغلب المصائب التي تصيبنا.

وحتى لا يتهمني أحد بأني ألقي اللوم دائماً على الآخرين، فإني أعرف أخطاءنا وأقر بها وأحملها المسؤولية التي تستحقها، خاصة وأني أعرف مقولة المفكر الجزائري «مالك بن نبي» بأن الشعوب تستعمر (بضم التاء الأولى وفتح الثانية) عندما تكون لديها القابلية لذلك، وأنه بالتالي فوصول الشعوب إلى مرحلة من التفكك والوهن هو الذي يفتح الباب أمام المؤامرات الخارجية. ولكن هذا على أية حال حديث آخر، أما ما هو عاجل فهو ألا يترك العرب أشقاءهم في العراق فريسة لما يتعرضون له من مؤامرات داخلية وخارجية، تستغل خلافات حقيقية لتستدعي من خلالها وتحت ستارها صفحات من تاريخ أسوأ وأسود، الصفحات التي عرفها التاريخ الاسلامي والتاريخ العربي.

وإذا انتقلنا إلى الجبهة الأخرى التي نواجه فيها أخطاراً تتحمل أخطاؤنا جزءاً من أسبابها، بينما الأغلب نابع من استغلال الآخرين لأخطائنا بنوايا خبيثة سوداء، فإن ما نراه في فلسطين كأنها نور كاشف أو نار مشتعلة تنكشف على ضوء نيرانها الكثير من الأكاذيب التي يراد تبليغها و«تبليعها» لنا. ويعود هذا بنا إلى حديث الديموقراطية التي يتشدقون بها ويدعون إليها عندما تكون على هواهم. فهم لا يكفون عن لوم الدول مرة لأنها تخالف قواعدهم للديموقراطية ومرة لأنها لا تسرع الخطى نحو ما يدعونها إليه، ومرة ثالثة لأنها ترتكب أخطاء في مسيرتها نحو تخفيف القيود وفتح الطريق أمام الغد المأمول. ولكنهم من ناحية أخرى لا يتورعون عن محاولات خنق النظم الديموقراطية التي لا تعجبهم ليس لعيب فيها ـ وقد تكون فعلاً معيبة من بعض النواحي، ولكن لأنها لا تتفق مع أهوائهم وأطماعهم.

وأنا هنا لا أتحدث عن الماضي البعيد مثل ما حدث «لليندي» في شيلي أو ما يحدث ازاء شافيز في فنزويلا، بل أتحدث عن فلسطين. ونحن نعرف أن اسرائيل لا تريد حلاً وتبحث دائماً عن حجج حتى تستمر في احتلال أراضي الغير وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه، وقد رأينا كيف أنها تحت حكومات تباينت في أمور كثيرة إلا في أساليب الخداع والمراوغة وتبرير العدوان، قد أفسدت كل جهود فلسطينية وعربية ودولية لتسوية هي في الحقيقة لمصلحة الجميع، ورأينا كيف تعاملت مع أبو عمار ثم مع أبو مازن وكيف تعتزم التعاون مع أي حكم ولا تقدم في ذلك حججاً ولا تقدم حلفاء لها في الولايات المتحدة يسايرونها دائماً بل يشجعونها أحياناً. والآن وقد تمت الاستجابة لما كان يدعو إليه الأميركيون الفلسطينيين من اجراء انتخابات حرة ونزيهة فإنهم يريدون معاقبة الشعب بل خنقه لأنه اختار حماس. وأعتقد أنهم بهذا الأسلوب يريدون منع حماس عن توليها السلطة من أن تسلك الطريق الطبيعي التي تسلكه كل حركة تحرير تصل إلى الحكم نحو اعتدال تدريجي، ويريدون تشجيع التطرف الذي ينبع من اليأس ـ الذي يريدون تعميقه، ومن البؤس الذي يخططون لزيادته.

فالمسألة ليست إذن البحث عن شريك يدعون بحثهم عنه لتحقيق السلام، بل هي قتل الشريك أياً كان حتى يتحقق السلام الوحيد الذي يرتضونه، وهو سلام قبور يدفنون فيه الطرف الآخر ويبنون فوقه مستعمراتهم الملعونة. ومن الغريب أنهم يجدون تشجيعاً وتواطؤاً من دعاة الديموقراطية والعدل والسعادة، بل أن هؤلاء المشجعين يتحركون بنشاط لتحريض آخرين بل تهديدهم حتى يشاركوا في هذه المؤامرة الجريمة ضد الديموقراطية وضد السلام. ويبدو أن تلك الجهود قد فشلت فقد جاءت الأنباء مؤخراً تشير إلى أن أوروبا قررت ألا تمنع مساعداتها للشعب الفلسطيني، ربما لأنها اقتنعت بالحق والعدل والمنطق، وربما لأنها لم تشأ أن تترك الباب مفتوحاً لكي يقتصر العون للفلسطينيين على دول ـ أو دولة بالذات ـ لا يرتاحون إلى سياساتها أو مخططاتها أو طموحاتها بعد أن فرشت لها الأخطاء الأميركية الطريق بورود حتى أن اختلطت بأشواك.

المهم أن تدرك حماس ويدرك أبو مازن والدول العربية، انهم جميعاً في قارب واحد تحاول إسرائيل إغراقه بمساعدة عصابة المحافظين الجدد، أو بالأحرى المبددين الجدد لسمعة الولايات المتحدة ـ إذا كان قد تبقى منها شيء ـ ومصالحها ـ التي ما زالت كثيرة. وهذا الموقف يقتضي تعقلاً ومصارحة وتصميما من جميع الأطراف العربية مهما كانت الاختلافات والخلافات بينها. وليس من شك في أن حماس ليست هي الخيار المفضل لدى دول عربية كثيرة، ولكن ليس هناك شك في أنها جاءت إلى الحكم بشرعية الاختيار الحر لصاحب الشأن وهو الشعب الفلسطيني، وهو الشعب الذي يجب علينا أن نستمر في دعم قضيته وحقوقه وفي مساعدته على سلوك الطريق الذي يحقق هدف الاستقلال والسيادة على أرضه، التي سقط من أجلها آلاف الشهداء من الفلسطينيين وأشقائهم.

ان جرحى العراق وفلسطين يدميان، ولا يملك عربي مهما كانت ميوله أو أفضلياته أن يكتفي بالغيظ يكتمه أو يظهره، وبالغضب يبطنه أو يجهر به، وبالشجب واللعن والاستنكار، بل على كل منا، شعوباً وحكومات، أن نجد الوسيلة الأفضل لهزيمة نوازع الشر لدى بعضنا، وهزيمة مخططات من لا يفرقون بين عربي وعربي في محاولة اخضاعهم وسلب حقوقهم. وفي ذلك علينا أن نتجاوز عن الكثير مما كان، ونرنو بأنظارنا وأفكارنا وقدراتنا إلى المستقبل الذي نتطلع إليه، والذي سيكون مستقبلنا جميعاً، لأننا لن نقبل أن يقال عنا أن الفيل الأبيض أكل يوم أكل الفيل الأسود، وفقاً للقصة الشهيرة.