معرض الكتاب: ماذا لو تعلمنا التسامح ..؟

TT

صراعات كلامية وصخب فكري حافل بألفاظ التكفير والإدانة والتجريم، وصولاً إلى الشتيمة والتلويح بالتهديد...

هذا بعض ما جرى في معرض الكتاب الدولي في الرياض المعقود هذه الايام، والذي باستثناء هذه الأحداث «المتوقعة» في مثل هذه الحال، فإنه يعد من أنجح التظاهرات الثقافية التي فتحت الآفاق على عهد ثقافي جديد بالمملكة.

ما حدث يعيد إلى الذاكرة حقبة صراع الثمانينات بين الجناح المتطرف، في ما يسمى بالصحوة الإسلامية، وبين النخب الثقافية السعودية التي كانت إبان ذلك تنزع إلى تأسيس ثقافة مدنية ذات طابع حداثي يهدف إلى تحريك السائد ولو من بوابة «الفن» بمفهومه الشامل، الكتابة الأدبية والنقد... وكانت نهاية تلك الحقبة بكل تجلياتها السلبية من الطرفين مؤذنة بتحول دعاة الإسلام السياسي من الحقل «الثقافي» إلى «السياسي» عبر آليات التصعيد والحشد التي بلغت ذروتها في أزمة الخليج الثانية، ودخول القوات الأجنبية، مما حدا بتلك النخب إلى الانكفاء والاشتغال بالهم الفردي ومحاولة الاستماتة لمحو الصورة النمطية عن مشروعية الاختلاف مع الفكر المتطرف، باعتباره ليس الممثل الوحيد للإسلام.

ومع كل التحولات التي طرأت على الطرفين لا سيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وصدور بيان المثقفين السعوديين الذي ضم شخصيات من الجانبين الصحوي والآخر، تحول الصراع من السطح إلى القاع، حيث لم تزل القواعد الشعبية لتلك الجماعات تضمر الكثير من الاستهجان والرفض لأي فكر مختلف معها يحاول كسر الطوق المقدس حول «ثوابتها» التي طالها الكثير من النقض والتعرية عبر ارتفاع سقف الحرية في الصحافة المحلية، والذي اتكأ على ملف الحرب على الإرهاب المستتر تحت مقولات دينية، ومن ثم يمارس آلياته النقدية على المنظومة الفكرية المنتجة للتطرف الديني بكل أشكاله.

هذا التحول في السجال بين الطرفين سبقته، ورافقته ايضا، تحولات نوعية هامة في بنية وآليات وهواجس الأفكار المتداولة في المشهد الثقافي السعودي برمته، أهم تلك التحولات، الانزياح في أفكار ولغة النخب الثقافية من الشأن الأدبي النقدي إلى القضايا الفكرية والثقافية بإطارها العام، إضافة إلى ضخ جيل جديد من الشباب الذين نشأوا في محاضن تلك «الصحوة» وعجنت أفكارهم بمائها وخبزها، مما ساهم في قطع الطريق على المزايدة عليهم في الثقافة الدينية، ومن هنا تحول الموقف من مجرد كونه دفاعاً عن حق مشروع في اجتراح آفاق أدبية وثقافية لا يرضى عنها الصحويون، إلى مقارعة الثقافة الدينية السائدة بأفكار إصلاحية وتجديدية ساهمت حتى في تحول قيادات صحوية ونكوصها عن التطرف إلى مواقف أكثر اعتدالاً وتسامحاً.

ومن هنا يمكن فهم هذا الإلحاح والشغف، من قبل بعض شباب الصحوة، على التهام الجديد في عالم الكتب والإصدارات الثقافية، وأيضاً هذا الكم الكبير من المنتجات الثقافية لكتاب سعوديين في شقها الأدبي والفكري، من جهة أخرى حدث تحول في المناخ الثقافي العام، ليس في السعودية فحسب، بل في العالم أجمع. فالحرب على وباء الإرهاب أصبحت الشغل الشاغل للحكومات والمؤسسات الأهلية والنخب الثقافية، ولم يعد الحديث عن امتعاض نخبوي ضد افكار تكفيرية ومتطرفة كانت تفهم في سياق محدود جدا هو: التعصب الديني الخاص، بل تحول الأمر إلى فتح ملفات كبرى تطال المؤسسات التعليمية والدينية والأنشطة اللامنهجية والتي تم تعريضها لمشرحة النقد بغية فهم معضلة الإرهاب خارج الإطار الأمني، وخارج التبريرات الدينية والسياسية التي ما عادت تقنع أحداً، حتى أولئك الذين ترددوا في البدء وحاولوا فك الارتباط بين الإرهاب باعتباره نتاج تنظيم ضيق النطاق وهو «القاعدة»، وبين الفكر الديني المتطرف الذي لا تعدو أن تكون قناعات راسخة تعبر عن هوية دينية مجتمعية كما يرى أولئك.

هناك رفض للتطرف بكل أشكاله في السعودية ومن أعلى رأس الهرم وحتى أصغر الأجيال الجديدة التي نشأت في ظل مناخ العولمة والانفتاح الاقتصادي الجديد، وتطمح إلى دخول سوق العمل بعقلية مدنية تجمع بين الاعتزاز بالإسلام المتسامح ومسايرة روح العصر ورفع شعار «الوطن أولاً»، هذه الروح يجب استثمارها من قبل النخب الثقافية عبر تفعيل دور المؤسسات الثقافية والأندية الأدبية والأنشطة المدرسية وتعزيز لغة الحوار والإصرار عليها والصبر على الأذى في سبيل ترسيخ «ثقافة متسامحة» من اجل تحجيم «الثقافة المأزومة» التي لا يمكن لها أن تعيش في ظل هذه التحولات الكبرى التي يعيشها العالم، وأيضاً في ظل التحولات التي تعيشها المجتمعات الإسلامية الطامحة إلى تعزيز الهوية الدينية بعيداً عن رهانات التطرف والتشدد.

وعودة الى أحداث معرض الكتاب الدولي في الرياض، والتي تعرض فيها مثقفون لتهجمات من قبل اسلاميين متشددين، تبدو الفرصة الآن مواتية لتدشين ثقافة دينية متسامحة، وهو العبء الذي يجب أن ينهض به الدعاة الاسلاميون المعتدلون أولا، فعليهم يقع الدور الأكبر، على الأقل تكفيراً لنزق البارحة! فهم وحدهم من يملك أخذ زمام المبادرة والشجاعة الفكرية لترشيد حماس «الفتية الذين آمنوا بربهم»، ولدمجهم في السياق الوطني العام وحينها فقط سنكون بخير!

[email protected]