شهوة الدمار ورسالة العمران

TT

أحرق الالمان لندن. واحرق البريطانيون درسدن. واحرق الاميركيون هيروشيما. ودمّر الروس برلين. ودمّر اليابانيون الصين. وكادت الارض تمّحى. وسقط عشرات الملايين تحت الركام، بلا جنازات، وبلا اوسمة وبلا تذكار. وتحولت اوروبا الى مدفن كبير. واصبح المحيط الهادي مراَباً لخردة الحديد وهياكل السفن والطائرات. وشعر الجميع بالجوع. واشتهى البريطانيون قطعة من السكر. ولم يعد في باريس ملعقة من الزبدة. ودفعت برلين اولاد الثانية عشرة للدفاع عن آخر خطوطها الدفاعية. ورمت بالرصاص العجزة الذين لم يستطعوا القيام الى الحرب. وقتل الالمان عشرات آلاف الفرنسيين. وجوّعوا فرنسا واذلوا اهلها.

عندما سافرت الى اوروبا للمرة الاولى العام 1961، كانت لا تزال تحمل ملامح من آثار الحرب بعد 17 عاماً على انتهائها. فالورق الصحي لم يكن متوافراً في فنادق فرنسا بعد. ووسائل النقل الكهربائية كانت كئيبة وضاجة. والفرنك الفرنسي والمارك الالماني ناهيك باللير الايطالي، كانت اضعف بكثير من الليرة اللبنانية. وكانت نفوس الاوروبيين لا تزال مليئة بالضغينة والاسى. ولم يكن سهلاً ان تشاهد المانياً في باريس. ولم يكن اليابانيون قد بدأوا يجولون القارة ومعهم الآت التصوير. وكان الاميركيون، الذين ساهموا في انقاذ اوروبا، يملأون شوارع المدن، ويصرفون عملتهم الشديدة التفوق في كل مكان.

الصحف الليبرالية في لندن وباريس تحمل الآن انتقادات يومية لسياسات اميركا وعادات الاميركيين وثقافتهم. واليابانيون يملأون الفنادق والحدائق العامة وبرج ايفل. والحلف الفرنسي ـ الالماني يتجاوز اي ثنائية اخرى في اوروبا، وربما في العالم. ولندن وبرلين وباريس وهيروشيما ودرسدن، مدن لا حدود لاضوائها، ولا تتوقف الحياة فيها طوال 24 ساعة. وموسكو تتقدم يوماً بعد يوم الى صف مدن الازدهار التي كانت الى الامس تعاديها وتتقاتل معها، سلماً وحرباً.

دمّر اللبنانيون بيروت. وحوّلوا وسطها العتيق الجميل العابق بالتاريخ، الى خنادق، ومبانيها العريقة الى هياكل. وصار «الوسط» غابة موحشة ومدفناً كبيراً يفصل بين اللبنانيين. ثم انتهت الحرب وجاء رفيق الحريري فاعاد الى الوسط بهاءه. والآن يجتمع اللبنانيون في وسط بيروت ليبحثوا عن وسائل السلم الابدي ويتفقوا على معرفة من قتل رفيق الحريري، وعلى إطاحة خصمه الاول، الجنرال اميل لحود.