إشكالية الثقافة العربية المعاصرة

TT

يصف مؤلف كتاب «قصة الفلسفة» وول ديورانت، الفيلسوف والمفكر فولتير بقوله: «كان فولتير دميم الوجه مغرورا ذلق اللسان ثرثارا بذيء القول فاحشه، معدوم الضمير، وأحيانا خائنا غدارا. لقد كانت له جميع رذائل زمانه ومكانه، كان لا يفتقد أيا منها. ومع ذلك فإن فولتير هذا بالذات، يبتدئ لطيفا لطفا غير متناه، رصينا وسخيا بطاقاته وماله، دؤوبا في مساعدة أصدقائه دأبه على تحطيم أعدائه، قادرا على القتل بكلمة تخطها ريشته، ومع ذلك يكون أعزل من كل سلاح عند أول محاولة للتوفيق بينه وبين خصمه».

هذا الرجل بكل تناقضاته، وبكل هذه الصفات المتعاكسة كان يحمل في جوهره قوة ديناميكية هائلة على صناعة الأفكار التي أثرت العقل الأوربي كثيرا حتى قال عنه فيكتور هيجو: «إن تنطق باسم فولتير، فذلك يعني أن تسمي كامل القرن الثامن عشر باسمه». ووصفه لامارتين بأنه: «أعظم كتاب أوربا الحديثة بلا منازع». فمثالب هذا الرجل لم تحل دون استفادة مجتمع أوربا من الجزء الإيجابي في كأس قدراته الذهنية.

لذا كلما قرأت إشادة بفولتير في الثقافة الغربية أتحسر على حال الثقافة العربية، في ظل منهجية اجتماعية مستحدثة تمارس الإقصاء الكلي لأسباب جزئية، وأصحاب هذه المنهجية المسكونة بهوى كشف المثالب وتتبع الصغائر وغض الطرف عن الفضائل، لا تكتفي بالإقصاء والاغتيال المعنوي لمعاصريهم ومجايليهم فحسب، ولكنها قد تذهب إلى حد نبش قبور الموتى من مئات السنين لمحاكمتهم وتلطيخ سيرهم واسمائهم وتاريخهم. ووفق هذه المنهجية التي تضحي بالكليات الإيجابية لوجود جزئيات «سلبية» تم إقصاء عدد من كبار المفكرين وعلماء الدين والفلاسفة والمبدعين، أحياء وأمواتا، والتضحية بكل عطاءاتهم، ففي ظل هذه المنهجية تذهب المثالب بالمناقب، ويتوالى في أتونها فرض الإقامة الجبرية في عتمة القائمة السوداء على الكثير من النابغين العرب.

ولو ابتليت الثقافة الغربية بمثل هذه النزعة لما حفل التراث الإنساني اليوم باسماء كبيرة خالدة أمثال: شوبنهاور وديكارت ونيتشه ومونتيسكيو وروسو وفولتير وغيرهم، ولذا فإن على ثقافتنا العربية أن تكف عن وأد رموزها، وأن تخلص وتتخلص من نزعة البحث عن المثالب التي تستهدف تجفيف الأجزاء المملوءة من عطاءات النابغين، فالثقافة لكي تعيش وتنمو وتنتشر تتطلب مساحة من الحرية، وقدرا من الحكمة، وكثيرا من التسامح.. فماذا نحن فاعلون؟

[email protected]