مؤتمر «الخوار» الوطنيّ اللبنانيّ

TT

لا تعبر أمام مقهى لبنانيّ، إلا وتسمع روّاده يتشارعون في ما قاله جنبلاط، وبماذا ردّ عليه حسن نصر الله. ولا تجلس مع مجموعة إلا ويقدح شرر الفضول من عيون أفرادها، يريدون أن يعرفوا من أي طائفة أتيت، وأي زعيم تتبع، ولأجل عيون من تنتخب وتتظاهر، أو توقع العرائض، كي يعرف كل منهم كيف يدير دفة الحوار.

كل شيء في حياتك بات دلالة على انتمائك: اللون الذي ترتديه، الإذاعة التي تسمعها، التلفزيون الذي تثق بأخباره، وربما أيضا المقهى أو المطعم الذي ترتاده، والأصدقاء الذين تلتقيهم. ليس أصعب من أن تغرد خارج أسراب الطوائف في لبنان، هذه الأيام لأن العلة ستكون فيك لا في الآخرين الذين اختاروا خنادقهم ومتاريسهم وزعماءهم السياسيين والروحيين، ومرجعياتهم الإقليمية أو الدولية، وتركوك منبوذاً على قارعة خرائط فصلوها على قياسهم.

شعب مشغول بشيبه وشبابه، بقضايا الطوائف التي تدعي كل منها انها وطنية أكثر من الفئة الأخرى، وتحب لبنان بأرزه وبحره وسمائه أكثر من فيروز في أغانيها، وسعيد عقل في شعره. بدليل أن غالبية الشباب اللبناني قال في استطلاع اجري مؤخراً، انه مع الوطن وضد الطائفية. وها هو أمين عام حزب الله يؤكد هو الآخر «سنقدم الغالي في سبيل الوحدة الوطنية»، ولا يقل رئيس الوزراء السابق نجيب ميقاتي وطنية عنه، حين يسأل عن دور السنة، فيجيب منتفضاً: «السنة هم لبنان، انهم الوعاء الذي يحتضن كل اللبنانيين». ويفضل، في هكذا حالة، ان لا تسأل عن الموارنة لأنهم، هم أيضاً، لن يقبلوا بأقل من كونهم رمزاً للفداء.

لكن أنظر إلى تلك الطاولة المستديرة التي تجمع «زعماء لبنان» منذ الأسبوع الماضي، تجدهم مجرد «أمراء طوائف»، رغم التسميات الحزبية التي يتسترون خلفها. «المستقبل» و«التيار الوطني الحر» أو حتى «حزب الله» و«حركة أمل»، نعوت لا تحيل إلى دين أو مذهب، لكنها أصول اللعبة. فكي تكون لبنانياً حقاً عليك ان تدّعي أولاً انك تحترم كل الأديان ووجهات النظر، وأن الطائفية عار على أصحابها، وأنت بالتأكيد خارجها، لكن الصدفة تشاء، دائماً، أن تكون طائفتك على حق، وزعيمك «رجل ولا كل الرجال».

لهذا تبدو طاولة الحوار أو الخوار، بطائفيتها ومذهبيتها هي الممثل الشرعي الصادق للبنانيين، والمرآة التي بها يرون أنفسهم.

سأل الكاتب كلوفيس مقصود في مقالة له عن سبب إقصاء اللاطائفيين من الحوار، ونسي ربما انهم في العمق باتوا أقلية بحّ صوتها، ثم اختفى.

كل اللبنانيين يصلّون اليوم، كلا على طريقته، كي ينجح الحوار، ويعرفون أن المخاطر كبيرة، ويقرون بنسبة أكثر من 90% بحسب استطلاع أجري مؤخراً أن اطرافاً خارجية تعبث باستقرارهم. وبقليل من المصارحة يقرون أيضا أن طوائفهم مرهونة لهذه الجهة أو تلك، ولهذا فإن أكثر من نصف اللبنانيين (بحسب أحد الاستطلاعات) تفاءلوا بالتفاهم العجيب بين «حزب الله» و«التيار الوطني الحر»، ويعلمون ان الأمر يحتاج معجزة، جديدة كي ينضم الباقون إلى ما يشبه هذه الورقة الأولية الضبابية.

لكن هناك على ما يبدو، ما قبل الطاولة وما بعدها. اذ قبل ان يلتئم الشمل تحت قبة البرلمان، بدا الزعماء سوقيين، تنهشهم الثرثرة ويتآكلهم الابتذال. لم يوفر واحدهم نعتاً يخدش أو يجرح إلا واستخدمه، بعضهم لجأ إلى أسماء الحيوانات حين نضب قاموسه. فجأة وكأن السماء استبدلتهم بغيرهم، رقت معانيهم، ولانت ألفاظهم، وقصرت السنتهم، حتى بتنا لا نصدق اننا أمام الأشخاص عينهم. والمواطن المحتار لا بد يسأل عن النسخة والأصل لكل منهم. هل هم ضحايا التلفزيونات والتصريحات والاستفزازات، أم أن البعد جفاء، وتشتتهم الجغرافي ما بين «باريس» و«الرابية» و«المختارة» و«الأرز» و«الضاحية الجنوبية»، في مخابئهم الآمنة، في هذه الفترة الدموية، هو الذي أبعد الشقة الروحية بينهم.

حتماً يتساءل المواطن اللبناني، لماذا لا يعمل زعماؤه بصمت، دائماً، كما يفعلون اليوم، ويلتقون من دون دعوة وبروتوكولات. وهل غنى وصفق واقترع وحمل الأعلام والشعارات لينوبوا عنه «بتراشق الشتائم» و«التنابذ بالألقاب» و«تبادل الاتهامات».

السلوك الجديد المحير لأمراء الطوائف، يدعو للتفاؤل. وإذا كان الناس على دين ملوكهم، وهذا في لبنان أكثر من صحيح، فعلى زعماء القبائل والعشائر أن يدركوا حساسية دورهم، وخطورة ما يتلفظون به، وكارثة ان يكون لكل منهم بوق تلفزيوني وفوقه إذاعي في بعض الأحيان، وورقي أيضا. ونبارك بالمناسبة للجنرال ميشال عون إذاعته التي انطلقت بالأمس، تحت اسم «الغد» بانتظار تلفزيونه «البرتقالي». وتمعن قليلاً بالتسميات والألوان تشعر بانتعاشة في الروح، واصغ لما يقال تركبك الهموم وتتقاذفك الفتن.

وضع جانباً التوازنات الإقليمية والغطاءات الخارجية، والحساسيات المذهبية والدينية، تدرك حتماً ان في لبنان، قلة حيلة، وسوء تدبير، يبلغ حداً مذهلاً. ولا يمنعك هذا كله من الاحساس بأن مسافة الوعي بين العامة والنخب السياسية تنعدم في بعض الأحيان الى درجة الصفر. ويتماهى القائد مع القاعدة، والقاعدة تذوب فيه حتى لا ترى فرقاً أو مسافة تذكر. فالشخص يصير الكل، والكل يستغرق في شخص الزعيم، فيغضب لغضبه، ويبش عند فرحة، ويشعر بالامتهان إذا ما جرحت كرامة سائقه. وبالتالي فالشعب اللبناني الهادئ هذه الأيام، والمتضجر من سرية الحوار، يشعر بشيء من الغربة، ويتسرب اليه الملل، لأنه غيّر من عوائده. وللمرة الأولى منذ زمن بعيد جداً لا يعرف الصغير والكبير في هذا الوطن الأليم، تفاصيل المشادات والمناكفات والمهاترات، ويحملها معه إلى المجالس والسهريات، يتداولها مع الأحباب والأصحاب. ومع كل صباح يبدأ يوم أصعب وأعتى. فثمة دراسة نفذت لحساب مجلس الإنماء والإعمار، منذ ثلاث سنوات، وكان الوضع افضل واشهى، مما هو عليه اليوم، بينت أن 42% من الأسر اللبنانية تعيش تحت خط الفقر النسبي. وبإمكاننا تصور أن الوضع زاد سوءاً في السنة الأخيرة. ولم يعد للأحزاب المتنكرة خلف شعارات «المستقبل» و«الحرية» و«الديمقراطية»، إلا ان تحافظ إلى أطول وقت ممكن، على الصمت الذي بدأته، وتبقى تعمل كالنمل والنحل، حتى تريح المواطن وتزيح عن كاهله الفاقة، بدل توريطه كل يوم في خناقة.

[email protected]